روان النغيمشي

في منتصف القرن التاسع عشر، برزت «الوجودية» التي تُعدُّ من أكثر الفلسفات شيوعا وجدلا، وهي بمعناها العام: إبراز قيمة الوجود الفردي للإنسان، فهي التي تؤكد حريته وفردانيته وكينونته، وهذا ما جعلها من أكثر الفلسفات التي تعرضت للهجوم، لأنَّ المذاهب الدينية ترفض الوجودية بجميع أشكالها؛ لأنها تدعو الإنسان إلى التخلص من كل موروث عقدي أو أخلاقي، وممارسته حياته بحريةٍ مطلقةٍ دون قيد. كما تخلو من المسؤولية والالتزام.

وهذه الفلسفة تصف الإنسان بأنه يستطيع أن يصنع ذاته وكيانه بإرادته دون تدخل عقدي أو التزام ديني، وهو من يتولى خلق أعماله، وتحديد صفاته باختياره الحر دون ارتباط بخالقٍ أو بقيمٍ خارجة عن إرادته، حيث عليه أن يختار القيم التي تُنظّم حياته دون أي إجبار أو إملاء، وهذا يمثل مسارا إلحاديا عند بقية المذاهب الدينية وفق دراساتها الذاتية. وبعد مرور عدةِ أزمنةٍ من مناقشة هذه الفلسفة في عدة ثقافات مختلفة، أكدت المذاهب الدينية رفضها الحرية التامة، وأن الإنسان خُلِق وحاجته للعبادة بشكل فطري، حتى ظهرت أشكال عديدة من حرية العبادات التي بدأت من عبادة الأصنام، وكيف أن العقل البشري استسلم إيمانهُ لعبادةِ جمادٍ من خلق الإنسان ذاته بسبب حاجته الماسة للعبادة. وما زالت هذه الأصنام والأوثان تُعبد في شرق آسيا بشكل غير عقلاني، وهي من أكثر الشعوب جهلا من الناحية الدينية والمعتقدات المذهبية، فإيمانُ هؤلاء البشر بالشمس وعبادة البقر وتقديم القرابين والتقرب لها يمثل إقرارًا ودليلا على ضعف قدراتهم «العقلية المنطقية»، وهذا الذي سبب لنا ظهور عقدة «العقل الجمعي» بعدم استخدام العقل في تحليل أمر العبادة، وهذا ما يجعل الإنسان يعاني حتى هذا الوقت ظاهرة التشوش الديني والاجتماعي ورغبات غير متساوية على الرغم من التقدم العلمي والتعليمي.

وبعد محاربة الفلسفة الوجودية عدة سنوات من قِبل المذاهب الدينية، نتجَ عن بعضها ضرر على المجتمع، وتغذية العقول سنواتٍ عديدةٍ وفق منهجية قائمة تدعو إلى الغلو والتصوف والتطرف داخل حياتنا دون أن نشعر، ما أنتج لنا في جميع الثقافات العنصرية والحدة والجهل والفروقات الاجتماعية التي لا تحترم قيمة الإنسان وحريته، على الرغم من أن الحدود الشرعية واضحة ومنطقية، ويستطيع العقل الذي يمتاز به الإنسان أن يحدد الصواب والخطأ، كما تحدد الحياة الفطرية نفسها. وليس من الضروري أن ترتبط الوجودية بالإكراه، ولو كانت الحرية هي منهجها الأساسي، فالمُناداة بـ«الليبرالية والعلمانية والقومية» مشحونة باسم الحرية؛ حتى يثبت الإنسان من خلالها قيمته الإنسانية وفق الرغبات والتغيير الاجتماعي، وهي بذاتها محاربة من دينه الذي يؤمن به، فكيف تدعو إلى الحرية وخطابك الديني يرفض الحرية بجميع أشكالها!؟ وكيف تؤكد أهمية الحرية ودينك مقيد بالحدود الشرعية؟!. هذا ما جعل البعض يبقى في دائرة التناقض الاجتماعي والديني، حتى تشكلت عليه بالقوة والضغط المتفاوت بين الحدود الشرعية وأهمية الحرية. وعلى الرغم من أنَّ بإمكانه اختيار أي منهج ملائم له، وأن يسلك أي طريق يجده وفق قناعاته الفكرية، فالأمر غير مرهون بأوضاع تاريخية تحدد حريته وقناعته.

ونجد بعض الحركات التي تنادي باسم الحرية هي نفسها تنتمي لمذهب ديني، حتى أصبح المفكر لا يخاف من نشر أفكاره، فاستغلَّ البعضُ أجواء الحرية في برمجة العقول وفق رغباته الذاتية وأهدافه العملية، حتى تمَّ نسف كل الحدود الدينية والتقاليد الاجتماعية السارية؛ لتلبية الرغبات النفسية لدى الأفراد. فالخطاب الديني يؤكد عدمية حرية الفرد، وقدرته على اتخاذ خياراته وقراراته الوجودية بنفسه، حتى تطور الأمر من مذهب ديني إلى سلطة «العرف الاجتماعي»، التي أصبحت أقوى من سلطة المذاهب الدينية في القبول والاهتمام والمراعاة!.

وهكذا ازداد الثقل والإجهاد النفسي على الإنسان، فبدأ يشعر بأنه بسبب المعارك الطاحنة بين الفلسفات والخطابات الدينية ليس أمامه إلا إيجاد أو اتخاذ وضع التكيف، لإزالة خطر اختناقه. وهكذا ولد الفكر الوجودي كمخرجٍ من حالة اليأس والكآبة والقلق التي تساور الإنسان في العصر الحديث، لذلك يقول «إلكسندر إليوت» في هذا السياق: «سواءً أكانت الحياة كفنا أم شرنقةً، فإنَّ على كل إنسان أن يحيك حياته بنفسه».

وأخيرًا، نجد لمفهوم النهضة والإصلاح حضورا بارزا في المجال الفلسفي، سواءً في الماضي أو الحاضر؛ لأن التاريخ يتقدم بشكل تضافري، حيث يؤكد علم الاجتماع قوته وسلطته على التغير المستمر في ضوابط الحرية والقوة الاختيارية، التي حققت بذاتها جدلية متموجة بين جاذبية الداخل الحر وإكراهات الخارج المحدود.