العلاقة الجدلية القديمة بين العقل والنقل ما زالت حاضرة بيننا اليوم، وكما أشبعت طرحًا في الماضي، تطرح مجددًا ولكن بأقل علمية وأقل موضوعية، وبقدر كبير من السذاجة. تقديم العقل على النقل أو تقديم النقل على العقل، هذه الجدلية دخلت في العصر الحديث، عالم تصنيع السيارات والطيارات والأجهزة الذكية. فهناك من يظن أن الغرب تقدم لأنهم يقدمون العقل على النقل، والعرب تأخروا لأنهم يقدمون النقل على العقل. بهذا الطرح الغريب يتعامل بعض الكُتاب والمثقفين العرب مع تلك الجدلية.
ماذا يعني أن نقدم النقل على العقل أو العكس؟ هل تقديم العقل على النقل يمثل سلوكًا تنويريًا وتقدميًا كما يبدو، وهل تقديم النقل يعني إلغاء العقل والاعتماد على آراء السلف أو السير على نهجهم بصورة سلبية؟
علينا أن ندرك أن تقديم النقل على العقل ليس سلوكًا يوميًا يشمل كل مناحي الحياة بل ولا يشمل كل مناحي الدين. ولا شك لدينا أن الله عز وجل أمر الناس بالتفكير في الكون والمخلوقات، فالعقل قادر على معرفة خالقه، وأن الله هو الخالق الموجد من خلال التفكر في مخلوقاته ولا خلاف في ذلك، ولكن هل يستطيع العقل معرفة صفات الله وأسمائه؟
فالتفكير في الأسماء والصفات هو مربط الفرس وبسبب الخلاف بين الفقهاء في مسائل الأسماء والصفات نشأت جدلية (العقل والنقل)، وهي مقتصرة على دراسة الأسماء والصفات وخارجها فإن الخلاف يزول وينتفي ويصبح بلا معنى، فلا يوجد تعارض حقيقي بين النقل والعقل عند الفقهاء خارج نطاق الأسماء والصفات. وتقديم النقل على العقل أو العكس ليس له علاقة بصناعة السيارات والأجهزة الذكية.
بعد الفتوحات الإسلامية وتمدد الإمبراطورية الإسلامية، دخل كثير من الشعوب والأمم للمجتمع العربي الإسلامي، ومنهم أفراد وجماعات لا يزالون يحملون بقايا من معتقداتهم الدينية القديمة، ومن الطبيعي أن تثار المسائل العقدية وتطفو على السطح. وفي عصر السلف عصر نزول الوحي، لم تطرح مسائل الأسماء والصفات بشكل معمق، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أن خاض في تلك المسائل مع أنهم كانوا يسمعون القرآن مباشرة من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مملوء بآيات الصفات. يقول ابن القيم: «وقد تنازع الصحابة رضي الله عنهم في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانًا- ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال». بمعنى أنهم كما يتضح من كلام ابن القيم يؤمنون بها ولكن دون الخوض في تفاصيلها، فهناك قناعة مجمع عليها في عصر السلف أن موضوع الصفات خارج عن طاقة وإمكانيات العقل البشري ولا يمكن للعقل أن يقدم أجوبة شافية بل إنه قد يضفي صفات لا تليق بكمال الله وجلاله أو يقع في فخ التمثيل والتكييف أو التعطيل والتحريف.
كيف إذن يتعامل الفقهاء مع الآيات المتضمنة ذكر بعض أسماء الله وصفاته بما أن العقل يقف أمامها عاجزًا؟
هنا يأتي دور النقل والوثائق التاريخية، ويجب علينا أن نعرف المقصود بالنقل. وماذا يعني أن أستعين بالمنقولات والنصوص للبحث عن الحقائق الإيمانية؟ التعامل مع النص يتطلب دراسته من زاويتين: الأولى معالجة النص لغويًا عن طريق وزنه وتحليله بمعايير اللسان العربي، وطريقة العرب في استعمال التعابير اللغوية المختلفة. والثانية دراسة الوثائق التاريخية لعصر الصحابة وكيف كانت طريقتهم في تلقي الآيات المعنية بالصفات. هناك آيات متعلقة بمسائل الأسماء والصفات وهناك العكس، ولكن كيف يمكن تحديد هذه من تلك؟
لنطرح الآية الكريمة كمثال: «فأينما تولوا فثم وجه الله» يعتقد ابن تيمية وهو أحد أكثر المفكرين تأثيرا في الفكر الإسلامي أن هذه الآية ليست متعلقة بمسائل الصفات، فهو يستثنيها من الآيات المثبتة للصفات بقوله: «إنما أسلم أن المراد بالوجه -هنا- القبلة، فإن الوجه هو الجهة في لغة العرب، يقال: قصدت هذا الوجه، وسافرت إلى هذا الوجه أي: إلى هذه الجهة، وهذا كثير مشهور، فالوجه هو الجهة. وهو الوجه كما في قوله تعالى: ولكل وجهة هو موليها».
ويضيف ابن تيمية قائلا: «والسياق يدل عليه، لأنه قال: أينما تولوا. وأين من الظروف، وتولوا، أي: تستقبلوا. فالمعنى أي موضع استقبلتموه، فهنالك وجه الله، فقد جعل وجه الله في المكان الذي يستقبله».
أردنا من هذا المثال، أن نسلط الضوء على الأسلوب المتبع في معالجة النصوص المقدسة لغويا عند واحدة من أهم المدارس الفقهية في التاريخ الإسلامي. فاللغة أو لسان العرب على وجه التحديد أداة مهمة في سبر أغوار النصوص والكشف عن مضامينها الدلالية. لذلك فإن التعارض بين العقل والنقل مصدره الحقيقي التفكير في مسائل الأسماء والصفات. والتفكير في قضايا أخرى لا يمكن أن ينتج عنه أي تعارض أو تداخل ما بين المعقولات والمنقولات.
ماذا يعني أن نقدم النقل على العقل أو العكس؟ هل تقديم العقل على النقل يمثل سلوكًا تنويريًا وتقدميًا كما يبدو، وهل تقديم النقل يعني إلغاء العقل والاعتماد على آراء السلف أو السير على نهجهم بصورة سلبية؟
علينا أن ندرك أن تقديم النقل على العقل ليس سلوكًا يوميًا يشمل كل مناحي الحياة بل ولا يشمل كل مناحي الدين. ولا شك لدينا أن الله عز وجل أمر الناس بالتفكير في الكون والمخلوقات، فالعقل قادر على معرفة خالقه، وأن الله هو الخالق الموجد من خلال التفكر في مخلوقاته ولا خلاف في ذلك، ولكن هل يستطيع العقل معرفة صفات الله وأسمائه؟
فالتفكير في الأسماء والصفات هو مربط الفرس وبسبب الخلاف بين الفقهاء في مسائل الأسماء والصفات نشأت جدلية (العقل والنقل)، وهي مقتصرة على دراسة الأسماء والصفات وخارجها فإن الخلاف يزول وينتفي ويصبح بلا معنى، فلا يوجد تعارض حقيقي بين النقل والعقل عند الفقهاء خارج نطاق الأسماء والصفات. وتقديم النقل على العقل أو العكس ليس له علاقة بصناعة السيارات والأجهزة الذكية.
بعد الفتوحات الإسلامية وتمدد الإمبراطورية الإسلامية، دخل كثير من الشعوب والأمم للمجتمع العربي الإسلامي، ومنهم أفراد وجماعات لا يزالون يحملون بقايا من معتقداتهم الدينية القديمة، ومن الطبيعي أن تثار المسائل العقدية وتطفو على السطح. وفي عصر السلف عصر نزول الوحي، لم تطرح مسائل الأسماء والصفات بشكل معمق، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أن خاض في تلك المسائل مع أنهم كانوا يسمعون القرآن مباشرة من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مملوء بآيات الصفات. يقول ابن القيم: «وقد تنازع الصحابة رضي الله عنهم في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانًا- ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال». بمعنى أنهم كما يتضح من كلام ابن القيم يؤمنون بها ولكن دون الخوض في تفاصيلها، فهناك قناعة مجمع عليها في عصر السلف أن موضوع الصفات خارج عن طاقة وإمكانيات العقل البشري ولا يمكن للعقل أن يقدم أجوبة شافية بل إنه قد يضفي صفات لا تليق بكمال الله وجلاله أو يقع في فخ التمثيل والتكييف أو التعطيل والتحريف.
كيف إذن يتعامل الفقهاء مع الآيات المتضمنة ذكر بعض أسماء الله وصفاته بما أن العقل يقف أمامها عاجزًا؟
هنا يأتي دور النقل والوثائق التاريخية، ويجب علينا أن نعرف المقصود بالنقل. وماذا يعني أن أستعين بالمنقولات والنصوص للبحث عن الحقائق الإيمانية؟ التعامل مع النص يتطلب دراسته من زاويتين: الأولى معالجة النص لغويًا عن طريق وزنه وتحليله بمعايير اللسان العربي، وطريقة العرب في استعمال التعابير اللغوية المختلفة. والثانية دراسة الوثائق التاريخية لعصر الصحابة وكيف كانت طريقتهم في تلقي الآيات المعنية بالصفات. هناك آيات متعلقة بمسائل الأسماء والصفات وهناك العكس، ولكن كيف يمكن تحديد هذه من تلك؟
لنطرح الآية الكريمة كمثال: «فأينما تولوا فثم وجه الله» يعتقد ابن تيمية وهو أحد أكثر المفكرين تأثيرا في الفكر الإسلامي أن هذه الآية ليست متعلقة بمسائل الصفات، فهو يستثنيها من الآيات المثبتة للصفات بقوله: «إنما أسلم أن المراد بالوجه -هنا- القبلة، فإن الوجه هو الجهة في لغة العرب، يقال: قصدت هذا الوجه، وسافرت إلى هذا الوجه أي: إلى هذه الجهة، وهذا كثير مشهور، فالوجه هو الجهة. وهو الوجه كما في قوله تعالى: ولكل وجهة هو موليها».
ويضيف ابن تيمية قائلا: «والسياق يدل عليه، لأنه قال: أينما تولوا. وأين من الظروف، وتولوا، أي: تستقبلوا. فالمعنى أي موضع استقبلتموه، فهنالك وجه الله، فقد جعل وجه الله في المكان الذي يستقبله».
أردنا من هذا المثال، أن نسلط الضوء على الأسلوب المتبع في معالجة النصوص المقدسة لغويا عند واحدة من أهم المدارس الفقهية في التاريخ الإسلامي. فاللغة أو لسان العرب على وجه التحديد أداة مهمة في سبر أغوار النصوص والكشف عن مضامينها الدلالية. لذلك فإن التعارض بين العقل والنقل مصدره الحقيقي التفكير في مسائل الأسماء والصفات. والتفكير في قضايا أخرى لا يمكن أن ينتج عنه أي تعارض أو تداخل ما بين المعقولات والمنقولات.