محمد السعد

حين نسمع مصطلح «شعر الحداثة» فأول ما يطرأ على البال، أننا أمام شعر حديث، شعر منقطع الصلة بالماضي والموروثات الدينية والثقافية، شعر يعبر عن روح المعاصرة وكل ما هو حديث وتقدمي. وهذا ما يجعل مفهوم الحداثة إشكاليًا ومربكًا وغير قابل للوصف والتحديد. فعلاقة شعر الحداثة بالتراث علاقة وثيقة للغاية ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر بعكس ما يعتقده كثيرون وعلى رأسهم رواد الشعر الحداثي في العالم العربي. شعر الحداثة شعر تراثي بامتياز لأنه يستخدم لغة دينية مستوحاة من التراث وهي لغة التصوف. وإطلاق وصف «شعر التصوف» سيقرب مفهوم الحداثة الشعرية للأذهان ويبدد الضبابية الملازمة لشعر الحداثة أو شعر التصوف إذا تحرينا الدقة. فلا يكاد يخلو شعر شعراء الحداثة العرب من آثار تلقيهم لتأثيرات اللغة الصوفية. وانفتاح الشعراء العرب على لغة التصوف كان بتأثير أوروبي.

الشاعر العربي منذ العصر الجاهلي كان يعبر عن نفسه باستخدام لغة الظاهر، اللغة الإنسانية البسيطة التي لا تتسم بالغموض مما يجعل القصيدة تعتمد على الهندسة اللغوية والصوتية ويجعلها تعبر عن جمالياتها بواسطة العروض أو الأوزان والقوافي. بينما لا تحتاج القصيدة الحداثية ذات النزعة الصوفية إلى الأوزان والقوافي أو أنها تتعثر في واقع الأمر باستعمالها الإيقاعات الصوتية والأوزان والقوافي. فلغة التصوف باعتبارها لغة لا شعورية تسعى إلى اختراق المجاهيل الروحية تتعارض غالبًا مع أي قيود لغوية لذا يصعب تحديد جوانب الجمال في القصيدة الحداثية ويجد القارئ صعوبة في التفاعل معها وفهمها بعكس القصيدة المعتمدة على العروض التي يمكن تحديد مواطن الجمال فيها فهي تقوم على لغة إنسانية واضحة حتى وإن لاذت بالغموض القائم على الكناية والمجاز اللغوي ولكن فهم المعاني يظل بمتناول اليد.

قد يتساءل أحدنا: لماذا نطرب عند سماعنا الشعر، وأين تكمن مواطن الجمال في الشعر الإنساني؟ في كتابه «دلائل الإعجاز» يشرح عبد القاهر الجرجاني «نظرية النظم» باعتبار أن النظم في الكلام يظهر فيه سر البلاغة وجمال اللغة. يقول الجرجاني: «وقد علمت إطباق العلماء على تعظيم شأن النظم وتفخيم قدره، والتنويه بذكره، وإجماعهم أن لا فضل مع عدمه، ولا قدر لكلام إذا هو لم يستقم له، ولو بلغ في غرابة معناه ما بلغ». نستنتج من كلام الجرجاني أن المعاني لا تعبر غالبًا عن جمال القصيدة وأن النظم في الحقيقة لا يعتمد على المعاني، فلا الألفاظ ولا المعاني والأشكال تمتلك السر في تأثرنا النفسي والوجداني مع النص. وحسب الجرجاني فإن النظم هو السر الخفي وراء تأثرنا النفسي بالكلام. ولكن على ماذا يقوم النظم إذا لم يقم على المعاني والألفاظ ويستند إليها؟ يقول الجرجاني: «وأعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها».

يعتقد الجرجاني هنا أن التوظيف الفني للقواعد النحوية هو السر الخفي وراء النظم الذي يؤثر بدوره نفسيًا وشعوريًا على المتلقي ويجعله يتفاعل مع النص بغض الطرف عن المعاني، بمعنى أن الانسيابية في توظيف الأدوات النحوية في اللغة سيكون لها الأثر البالغ على نفسية المتلقي وتجعله يتفاعل ويطرب مع الشعر الإنساني. فجمال اللغة وتأثيرها النفسي تتمركز حول النحو وأدواته.