ميسون الدخيل

الموت حقيقة لا مفر منها في حياة الإنسان. سيواجهه معظمنا بشكل ما، سواء وفاة أحد أفراد الأسرة أو بموتنا. إنه الخوف الذي يسيطر علينا، ويسحبنا إلى الغوص في آلامه. قد نفضل عدم التفكير في الأمر، ولكن تبقى الحقيقة أن الموت سيأتينا- حتمًا- جميعًا.

«وهل موت الإنسان أكثر من وقوفه عاريًا في الريح وذوبانه في حرارة الشمس؟ وهل تنقطع منا الأنفاس إلا لكي تتحرر من دورانها المتواصل، كي تستطيع أن تنهض من سجنها وتحلق في الفضاء ساعية إلى خالقها من غير قيد ولا عائق؟»

جبران خليل جبران يجسد هنا الخوف البشري الفطري من الموت المجهول. أنا- كمؤمنة- أتفهم عدم اليقين الكبير في الحياة والموت لدى كثيرين في هذه الأيام، لضبابية إدراكهم بماهية كل منهما، وافتقارهم لأمان كلمات الله، سبحانه وتعالى، في القرآن الكريم، وأحاديث النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي علمنا أن الموت ليس سوى جزء من رحلة حياة المؤمن إلا أنني أدرك تماما أنه على الرغم من أن الموت جزء قوي من التجربة الإنسانية، إلاّ أنه وعلى مر العصور، طاردت فكرة الفناء عقول كثير من الفنانين والكتاب والفلاسفة والناس العاديين على حد سواء. ففي محاولاتها للهروب مما لا مفر منه، سعت الإنسانية إلى إعادة تعريف حدود الموت في كتب الفلسفة والأدب والأعمال الفنية، وفي أغلب الأحيان عرضت القصص والروايات محاولات للهروب، رغم جرأتها، باءت بالفشل، ولعل أشهرها ما حملته الميثولوجيا الإغريقية والكثير من الأعمال الحديثة، لكن التمكن من الهروب في آخر لحظة كان له نصيب أيضًا، فقد تم تصويره في حلقة بثت على التلفاز بعنوان «الخطوات 39» لألفريد هيتشكوك، والقصة القصيرة «الدفن المبكر» لإدغار آلان بو، المهم أن هذه الأمثلة وغيرها من الأدب والفن والميثولوجيا، تتحدث عن النضال الخالد للبشرية ضد شبح الفناء.

ففي «الدفن المبكر»، يخشى رجلٌ أن يُدفن على قيد الحياة بسبب حالات فقدان الوعي التي كانت تنتابه، ليستيقظ يومًا ويجد نفسه في نعش، فيحاول الهرب قبل أن يدفن تماما تحت الأرض، هربًا من الموت في القبر، وبالكاد يتمكن جسده من شق طريقه إلى الحياة والأمان، لكن يكتب عليه تحمل الصدمة النفسية والعاطفية لـ«تجربة الاقتراب من الموت» لبقية حياته. ونجد هذا الخيط الأسود يحاك ويظهر مرارًا وتكرارًا في أعمال الكاتب إدجار آلان بو، وينعكس موضوع الهروب من نهائية الموت أيضًا في «الخطوات 39»، ففي نهاية الحلقة، بينما كان بطل الرواية على وشك أن يُعدم عن جريمة لم يرتكبها، والجلادون يعدون حبل المشنقة، يتمكن من هروب غير عادي، ويتم إنقاذه في اللحظة الأخيرة من قبل سلاح الفرسان الذي يهاجم فجأة السجن.

وبهذا يتيح مشهد الخلاص في اللحظة الأخيرة للجمهور الشعور بالأمل في وجهه المصاعب والتحديات للحياة.

لقد كانت محنة السجين تذكيرًا مهمًا بما يعنيه العيش في عالم غير مستقر، حيث التوتر بين الحياة والموت موجود دائمًا، وبالمثل، فإن الشخص المحاصر في التابوت يرمز إلى هشاشة الحياة وكذلك محاولتنا اليائسة للحفاظ عليها وإطالة أمدها، بمعنى أنه في كلتا الحالتين، وعلى الرغم من المعاناة، نجح الأبطال في نهاية المطاف في الفرار من الانتهاء بالموت وتجديد حياتهم، ومن خلال القيام بذلك، يعلموننا أن نكافح من أجل الحياة حتى عندما يبدو الموت أمرًا لا مفر منه، إنهم يذكروننا بأن الحياة بعيدة عن أن تكون عقيمة، ويجب أن نحاول دائمًا تحقيق أقصى استفادة من حياتنا.

أما في قصة «الهروب النهائي» لهتشكوك، فالموت يجسد على أنه أمر لا مفر منه؛ كان خوف السجين من الموت ناتجًا في البداية عن النهاية الحتمية للموت داخل جدران السجن، لقد كان بحاجة ماسة إلى الحرية ومستعدًا لتعريض حياته للخطر لتحقيق ذلك، وعليه يتفق مع زميل له في السجن؛ المسؤول عن دفن الموتى، على أن يخفيه الأخير داخل نعش السجين التالي الذي يموت، ولاحقًا نجد أنه بينما يرقد بجانب الجثة في التابوت، يصارع الأفكار السوداء؛ هل سيختنق أم يموت من العطش قبل أن يهرب؟ ويزداد خوفه عندما يُسقط الرجال الذين ينقلونه، التابوت على الأرض، في هذه اللحظة يدرك احتمال أنه قد لا ينجو وقد يأتي موته عاجلاً وليس آجلاً! للتغلب على ذلك، يحاول تبرير مصيره بالتركيز على حقيقة أنه ليس لديه خيار آخر، لقد كان بحاجة إلى المخاطرة للوصول إلى الحرية، وعليه فإن الموت أفضل من البقاء سجينا، ولكن بدأ الخوف يدب في أطرافه من جديد، خصوصاً عند تأخر زمليه في الحفر لإنقاذه، حتى يصل إلى مرحلة الرعب عندما يعلم لماذا، بعد أن ينزلق الكفن من على وجه الجثة التي تشارك النعش معه: لقد كان زميله- منقذه– الذي أصيب بنوبة قلبية في الليلة السابقة!

في مواجهة الموت، من المهم أن نجد العزاء في كل ما يجلب لنا السلام، سواء كان ذلك في الصلاة والعبادة أو واحة ودفء الأسرة والأصدقاء. نعم إن الموت قدر لا مفر منه، ولكن يمكننا أن نجد القوة في معرفة أننا لسنا وحدنا في مخاوفنا لأن ذلك من طبيعة الإنسان، لذا يجب أن نتعامل معه ليس من منطلق الهروب النهائي، حيث سنفاجأ بسوء أعمالنا، بل على أنه الممر إلى الراحة الأبدية حيث نقطف ثمار أعمالنا، ونتحرك في الحياة بناء على ذلك.