لن تنجح احتجاجات طلاب الجامعات الأميركية في إنهاء الحرب على غزّة، ولن تتمكّن من تغيير السياسة الأميركية وتأييدها المطلق لإسرائيل، لكن المهم فيها أنها تسلّط الضوء داخل أميركا نفسها على الأخطاء الفادحة لتلك السياسة التي يلتقي فيها الحزبان الرئيسيان على ابقاء أي مفهوم للعدالة خارج مبنى الكابيتول عندما يتعلق الأمر بحقوق الشعب الفلسطيني. يطالب طلاب جامعة كولومبيا بوقف اطلاق النار في غزّة وبـ "الحرية لفلسطين"، وهو ما لن يُسمع في البيت الأبيض ولا في الكونغرس ولا في أي دائرة من "مؤسسة الحكم"، إذ تكلّست جميعاً في تماهٍ مصلحي بين أميركا و"الوكيل" الإسرائيلي، حتى لو برهنت الوقائع أن ما يبنى بينهما على الخطأ، وهو هنا "الظلم" تحديداً، لا يستمر إلا بالجرائم ولا يأخذ بدروس التاريخ ولا يمكن أن ينتج سوى الحروب، وصولاً الى "الابادة الجماعية". يقيم طلاب وأساتذة مخيّمات رمزية لـ "التضامن مع غزّة" فتفلت السلطات عليهم آلة القمع، مثلما أفلتت وحشية إسرائيل آلة الموت والدمار على فلسطينيي غزّة فكتبوا على خيامهم "شكراً للجامعات الأميركية".

الجامعة هي احدى المفاخر الحقيقية للولايات المتحدة، هي المصهر الذي يصنع عظمتها ويحتضن حرية التفكير والتعبير والنقاش، أي بكلمة المكان الذي يرمز الى ما فيها من ديموقراطية تدعو العالم الى التمثّل به، فيما تبذل "المؤسسة" كل جهد لتعليبها. الجامعة لعبت دورها الأكثر شهرة عام 1968 ضد الحرب في فيتنام، بموازاة دور متزامن لا يقل أهمية في الدفع بتشريعات تنهي التمييز العنصري، وكان لها صوت مؤثّر ضد غزو أفغانستان والعراق على رغم أن الرأي العام الأميركي كان لا يزال آنذاك تحت صدمة هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وها هي الجامعة الآن تفضح إدارة أميركية قال رئيسها وكرّر إنه "صهيوني" ويفتخر بذلك، وقال وزير خارجيتها أنه ينظر كـ "يهودي" لا كـ "مسؤول" أميركي الى الحرب الانتقامية التي تشنّها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزّة.

يُفترَض أن ينصت الرجلان وأقرانهم الى ما قالته الكاتبة اليهودية نعومي كلاين، في كلمتها الأسبوع الماضي أمام تجمع يهودي في نيويورك، عن "معبود زائف اسمه الصهيونية"، داعيةً الى التحرر منه كمشروع "يرتكب الإبادة الجماعية باسمنا". ذهبت بعيداً في استقراء معنى "التحرّر" في الفصح اليهودي، كما في نقد عقلية الحرب الإسرائيلية، فقالت إن "فكرة الصهيونية السياسية عن التحرر دنسة في حدّ ذاتها، واقتضت منذ البداية تهجيراً جماعياً للفلسطينيين من بيوتهم وأراضي أجدادهم في النكبة (...) ومنذ البداية أنتجت الصهيونية وجهاً بشعاً للحرب، فرأت أن الأطفال الفلسطينيين ليسوا بشراً بل تهديداً ديموغرافياً، تماماً كما خشي الفرعون في سفر الخروج من تزايد أعداد الإسرائيليين ولهذا أمر بقتل أطفالهم". ثم أشارت الى الحرب الراهنة التي "يبرّر فيها هذا المعبود الزائف (الصهيونية) تدمير كل جامعة وهدم أعداد لا تحصى من المدارس وتدمير أرشيفات الصحف وقتل مئات الاكاديميين والصحافيين والشعراء وقتل كل وسائل التعليم"، وتطرّقت الى ما يحصل في نيويورك نفسها حيث دعت الجامعات الشرطة "لتحصّن نفسها ضد التهديد الخطير الذي مثّله طلابها حين تجرّأوا على طرح الأسئلة الأساسية مثل كيف تزعمون بأنكم تؤمنون بأي شيء على الاطلاق: على الأقل نحن جميعاً وأنتم تساعدون وتستثمرون وتتعاونون مع هذه الإبادة؟".

هذا "المعبود الزائف"، ساهم الكونغرس في تمجيده حين أقرّ مطلع كانون الأول (ديسمبر) 2023 قانوناً يساوي بين "معاداة الصهيونية ومعاداة السامية"، مجرّماً التعرّض لهما أو التشكيك فيهما، بل يساويهما بـ "معاداة إسرائيل". لم يكن ذلك مجرّد مبالغة في تحصين حليف إسرائيلي يدّعي أنه في "خطر وجودي" جراء هجوم "طوفان الأقصى"، بل كان تشريعاً استرجع تاريخ "المحرقة" لتغطية حرب تحوّلت الى "محرقة" للفلسطينيين. وإذ شدّد القانون على أن "أرض إسرائيل هي موطن الشعب اليهودي" فإنه تجاهل تماماً وجود الشعب الفلسطيني وحقّه في وطنه التاريخي. هذا ما يمكن وصفه بـ "القانون الاستبدادي" لأنه ضرب صفحاً مسبقاً عن جرائم الحرب وسمح لوزارة الدفاع وغيرها من المؤسسات الأميركية بأن تكرّر أن "لا أدلّة على ارتكاب إبادة جماعية في غزّة"، من دون حتى الاسترشاد بالذكاء الاصطناعي الذي برمجه الجيش الاسرائيلي واستخدمه آلاف المرّات في القتل والتدمير العشوائيين من دون أي مبرّر سوى القتل العمد للأطفال والنساء.

هذا ما أُريد لطلاب الجامعات أن يروه ويصمتوا عنه ويشاركوا أيضاً في تغطيته. لم يفعلوا. أكثر من عشرين جامعة شاركت في الاحتجاج، واستشعرت السلطات منذ الشهر الثاني للحرب الخطر فتحرّك الكونغرس باستدعاء رئيسات هارفرد وبنسلفانيا وماساشوستس وعرّضهن لاستجوابات جلفة وحضّهن على الاستقالة- وهو ما حصل فعلاً بعد حملة تشهير وتشويه ضدّهن- بناء على مزاعم عن "إبادة اليهود" و"معاداة السامية". كان أعضاء الكونغرس يطرحون أسئلة اتهامية موجهّة للحصول على ردّ بلا أو نعم فقط، قاطعين الطريق على أي شرح أو تحليل، وكانت الإجابات بأن الحُكم يتوقف على السياق وعلى الأفعال، بمعنى أن ما يجري في الجامعات الاميركية لا يؤخذ كأبيض أو أسود فحسب بل يخضع لاحترام التنوّع وحرية التفكير.

وحين تفجّرت قضية جامعة كولومبيا أخيراً تكرّر الاستجواب مع رئيستها المصرية الأصل نعمت مينوش شفيق، التي بدت ضعيفة ومنشغلة بمصير منصبها أكثر من انشغالها بالحريات الاكاديمية. واجهها الجمهوري ريك آلن بأن التوراة والانجيل يذكران بأن ثمة عهداً بين الله وإبراهيم، إذ قال الله له "إذا باركت إسرائيل أباركك وإذا لعنتها لعنتك" ثم سألها "هل تريدين أن تكون جامعة كولومبيا ملعونة؟". أما الجمهورية ليزا ماكلين فسألتها عن شعارَي "من النهر الى البحر ستكون فلسطين حرّة" و"تحيا الانتفاضة" وهل هما معاديان للسامية.

حتى كلمة "الانتفاضة" ممنوعة في قاموس الكونغرسيين المتعصبين... وهكذا بدا سلاح "معاداة السامية" ليس فقط أداةً لقمع الطلاب ومنعهم من رفض الحرب والدعوة الى عدم تسليح إسرائيل ووقف استثمار الجامعات في شركات تدعم الحرب، بل سلاحاً مؤازراً لـ "التجويع"، ومتضامناً مع "الإبادة الجماعية". وهكذا كشفت احتجاجات الجامعات "حقائق" التلازم الأميركي- الإسرائيلي في عقلية الحرب الدائمة و"المعبود الزائف"، وأعادت الى الذاكرة مجدّداً سِيَر محاكم التفتيش الشهيرة وإرث الحقبة الماكارثية في أميركا، كما ظهّرت الهوّة العميقة بين "النظام" وأجيال جديدة لطالما قاطعت الانتخابات لأن الحزبين الجمهوري والديموقراطي ينتجان السياسات الاستعمارية ذاتها... ولذلك يقول طلاب جامعة كولومبيا وأساتذتهم أنهم يعيشون درساً "حيّاً" للتاريخ أكثر دلالةً مما يتلقونه أو يلقّنونه في المحاضرات.

* ينشر بالتزامن مع موقع "النهار العربي"