معروف الرصافي

قضى أبو العلاء زهاء ثلاثين عامًا من أيام شبابه في موطنه من بلاد الشام، وكان في أثنائها ــ وإن كان كفيف البصر ــ يشارك الناس في حياتهم، فيجد معهم كما يجدون، ويهزل كما يهزلون، كما صرح به هو نفسه في الفصول والغايات، وكما أيده الدكتور طه حسين في كتابه «مع أبي العلاء في سجنه».

وهذا يدلُّ دلالة قاطعة على أنه كان إذ ذاك، غير يائس من الحياة ولا مشمئز منها ومن أهلها وأنَّ اليأس والاشمئزاز إنَّما حصلا له واعترياه بعد ذلك، أي بعد ذهابه إلى بغداد ورجوعه منها إلى موطنه بلاد الشام، فأدياه إلى عزلته المعلومة في محبسه الثاني، تلك العزلة التي أنتجت لنا الفصول والغايات أولًا، واللزوميات ثانيًا.

ولكن الدكتور يقول في صفحة 214: «إنَّ أبا العلاء لم يجلب حياته الفلسفية من بغداد، وإنما بدأها وأقام عليها في المعرة دهرًا، ثم ارتحل إلى بغداد وعاد إلى المعرة، وقد أتمها وأكملها بالعزلة، وما أكاد حين ارتحل إلى بغداد قد حمل معه طائفة من لزومياته، ومن فصوله وغاياته.

أما نحن فنقول: نعم! إن أبا العلاء لم يجلب حياته الفلسفية من بغداد كما يقول الدكتور، وإنما جلب من بغداد يأسه واشمئزازه من الحياة، وإن شئت فقل: جلب معه من بغداد أسباب عزلته التي بها عرفت وبها انكشفت حياته الفلسفية بعد رجوعه من بغداد، وأنه لم يبدأ حياته الفلسفية في المعرة قبل ذهابه إلى بغداد، بل بدأها في عزلته بعد رجوعه إلى المعرة من بغداد.

وأيضًا ماذا يريد الدكتور بحياته الفلسفية؟، إن كان يريد بها اعتزاله الناس وسخطه على الحياة ويأسه من خيرها واشمئزازه من شرها، وهي الحياة التي صورها لنا في كتابيه (اللزوميات والفصول والغايات)، فهذه الحياة لم يبدأها إلا في عزلته بعد رجوعه من بغداد كما يدلُّ عليه قوله في فصل من (الفصول والغايات)، قد ذكره الدكتور أيضًا في كتابه إذ قال: (ما زلت آمل الخير وأرقبه حتى نضوت كملا ثلاثين...) إلى أن قال: (فلما انقضت الثلاثون وأنا كواضع مرجله على نار الحباحب، علمت أن الخير مني غير قريب).

فهذا القول منه صريح في أنه لم ييأس إلا بعد الثلاثين التي قضاها في المعرة، ولا شك أنه لم يذهب إلى بغداد يائسًا، إذ ليس من المعقول أن يزمع الرحيل إلى عاصمة الدولة الإسلامية وهو في قنوط مقعد ويأس مريب، بل ذهب إليها والآمال تعتلج بين جنبيه، وعاد منها واليأس أخذ بناصيته وصدغيه. وإذا صح هذا صح أن تقول: بأنه لم يبدأ حياته الفلسفية القاسية إلا في عزلته بعد رجوعه من بغداد.

وإن كان الدكتور يريد (بحياته الفلسفية تفكيره الفلسفي فصحيح أنه كان يفكر تفكيرًا فلسفيًا أيضًا أيام كان في موطنه قبل ارتحاله إلى بغداد بل منذ أصبح قادرًا على التفكير، لأن المواهب التي جعلته قادرًا على التفكير قد ولدت معه يوم ولدته أمه. ولكن هذا التفكير الفلسفي لم يكن إذ ذاك إلا من قبيل الخواطر والهواجس التي لم يبح بها ولم يُعرب عنها بمنظوم أو منثور من أقواله، اللهمَّ إِلَّا شيئًا نزرًا من أفكاره الفلسفية التي ضمّنها شعره في (سقط الزند)، والتي تأتي في شعره عرضًا ولم يتخذها موضوعًا لقصائده كما في اللزوميات.

وممَّا لا ريب فيه أنَّ أبا العلاء لم يعلن حياته الفلسفية إلا في كتابيه، (اللزوميات والفصول والغايات)، وهذان الكتابان لم يكتبهما إلا في عزلته بعد رجوعه من بغداد؛ فإن كان عند الدكتور ما ينقض هذا من شعره الذي قاله في المعرة قبل ارتحاله إلى بغداد فليأتنا به، وإلا فنحن لا نسلم بقوله: (وما أكاد أشك في أنه حين ارتحل إلى بغداد حمل معه طائفة من لزومياته، ومن فصوله وغاياته).

وأيضًا: إنَّ أبا العلاء رغم كونه عاش حياة محترمة في بغداد فإنَّه لم يخل فيها من أذى الأضداد والحساد، ولا يستراب في أنَّه قَدِم دار الخلافة وعاصمة البلاد الإسلامية آملًا راغبًا، وأنه طول إقامته فيها خالط أهلها، خصوصًا أهل العلم والأدب، وأولي السياسة والأرب، فاحتك بهم، وعجم عودهم وسبر بمسبار الفكر والتجربة أخلاقهم ورأى تكالبهم على الدُّنيا، وتزاحمهم على أعراضها، وعرف ما لهم في ذلك من مخاتلة، ومداجات، وما هم عليه من كذب ورياء في أمور دينهم ودنياهم، وبالجملة أنه عرف بفطنته ظواهرهم المزوقة وبواطنهم الملوثة، وهؤلاء هم الملا وهم الخاصة من الناس فكيف عامتهم وطغامهم، أضف إلى ذلك أنه ضديدهم وأنه ذو نفس أبية وسريرة سليمة مرضية، وأنه كان بينهم كزهرة بين أشواك وأدغال، فكيف لا تشمئز نفسه منهم، وكيف لا ييأس من الخير في الحياة معهم!

فلذلك، نعم ! لذلك يئس أبو العلاء من الحياة مع الناس الذين لم يجربهم في بلد كما جربهم في بغداد، واشمأز منهم، وزهد فيهم وفيما يدعون من كرم ومجد كما قال عنهم في لزومياته:

(وزهدني في هضبة المجد خبرتي ... بأن قرارات الرجال وُهود).

حتى أنتج لنا يأسه واشمئزازه منهم ذمه للناس، ذلك الذم القطيع الذي لا نقف له عند حد محدود، وإنّي، تطفلًا على عبارة الدكتور أقول: ما أكاد أشك في أن أهم الأسباب والدواعي التي دعت أبا العلاء إلى ذم الناس ذلك الذم المقذع، لم تتكون عنده ولم تحصل له إلَّا في إقامته في بغداد. ذلك لأننا قبل مقدمه إلى بغداد لم نسمع منه في ذم الناس لهجة كلهجته في اللزوميات بعد مغادرة بغداد.

فالذي أراه هو أنَّ أبا العلاء استقر رأيه، وهو في بغداد، على تركها والعودة إلى وطنه واعتزال الناس، وجاءه الخير بمرض أمه فاستعجله إلى العودة، فعاد إلى المعرة مملوء النفس بهذا اليأس وهذا الاشمئزاز.

1935*

*شاعر وأديب عراقي «1875 ــ 1945»