محمد السعد

كان «تعليم الأطفال» في العصور الماضية، من المهن المستهجنة في المجتمع - المجتمعات القائمة على اقتصاديات الغزو والحرب إذا أردنا الدقة - وشهدت كتب الأدب العربي القديم إسقاطات متفرقة على المعلم مليئة بالاستهجان والاستخفاف بمكانته، والجاحظ رغم مكانته العلمية والأدبية كان من أكثر من المثقفين سخرية من المعلمين حتى أنه خصص فصولًا من كتاباته لذكر نوادر المعلمين أو «معلمو الصبيان» كما يطلق عليهم، وكتاب «ألف ليلة وليلة» الشهير لم يخل في بعض لياليه من التندر بالمعلمين، فالمعلم كان مجالًا للسخرية والضحك في تلك العصور، وكان مضربًا للأمثال في الغفلة والحمق، مع أن العصر العباسي كان عصر علم ومعرفة وأدب. ولكن لماذا لم يحظ المعلم بالمكانة الاجتماعية المرموقة التي يتمتع بها المعلم اليوم؟

لا نستطيع أن نلوم الجاحظ لأنه خلق صورة نمطية سلبية عن المعلم في ذاك العصر، فأغراض التعليم وأهدافه تحولت وتبدلت بصورة شاملة، فالتعليم كان يكرس لخدمة الأديان وتفسير وفهم الكتب والشرائع السماوية، ولم يكن التعليم المكثف والنظامي أولوية قصوى للأطفال وتحديدًا في عمر الطفولة المبكرة، بينما أصبح التعليم اليوم مكرسًا جملة وتفصيلًا لخدمة سوق العمل. المتعلمون في المجتمعات القديمة كانوا يكرسون علمهم لخدمة الأديان ولا يهدفون لأخذ مكان وحيز في سوق العمل.

في العصر الحديث أصبح تعليم الأطفال استثمارا يصب نهاية المطاف في مصلحة سوق العمل،أصبحنا نسمع كثيرًا من يردد: أن الاستثمار في الطفولة المبكرة ضروري للتنمية وصناعة المستقبل. فالتعليم أصبح شكلًا من أشكال الاستثمار الاقتصادي، حتى الآباء أصبحوا ينظرون للتعليم من هذه الزاوية، أنه مجال للاستثمار. طبعًا نحن لا نرفض مفهوم «الاستثمار في الطفولة المبكرة» تمامًا، بقدر ما نريد أن نسلط الضوء على تأثير ثقافة السوق العالمية في شعوب العالم، وكيف صاغ مجتمع السوق الإنسان الحديث. هناك أهداف من تعليم الأطفال يجب أن تأخذ أولوية مثل حب الوطن وتعزيز الانتماء الوطني وبث روح المشاركة والتعاون بين أبناء الوطن الواحد. فالآباء اليوم يحرصون على تعليم أطفالهم مناهج أجنبية (أمريكية تحديدًا)، ولغات أجنبية منذ نعومة أظافرهم، وغالبًا ما يدرسون اللغات الأجنبية في عمر مبكر للغاية، فهم يعتقدون أنهم يستثمرون في أطفالهم بغض النظر عن التبعات الثقافية المترتبة على ذلك.

هذا التأثير القوي لثقافة الأسواق في سيكولوجية المجتمع تعمق حتى بات يتحكم في اختيارات الأسرة وتحديد عدد أفرادها. فتحديد النسل وقلة الإنجاب سمة من سمات المجتمع القائم، ثقافة السوق، وقلة الإنجاب وكثرته غير متعلقة بالوعي - كما يعتقد كثيرون- ولكنها مسألة نفسية خالصة.

تحرر الإنسان الحديث من روابطه الاجتماعية القديمة واعتماده على مناهج العلم الحديث، منحه شيئًا من الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي ولكنه في الوقت نفسه جعله مفعمًا بالشك والقلق. الفرد في المجتمع القديم ومع كل الأخطار المحيطة به كان لا يتعامل مع مسألة الإنجاب بوصفها مسؤولية جسيمة يجب التهيؤ لها ماديًا ومعنويًا، فهو يملك روحًا مطمئنة وراضية، عكس الفرد الحديث الذي فقد القدرة على امتلاك الإيمان بأن الأرزاق موزعة وأن الطفل يأتي ورزقه معه، فالإنجاب بات استثمارًا يرضخ لقوانين السوق وعوامل الازدهار والكساد.