محمد السعد

الحديث عن دور العقل في التشريع قديم، كان ولم يزل مثارا للجدل والأخذ والرد. ولكنه اليوم اتسع وتفاقم حتى أضحى يشمل أدوارا إضافية تتعلق بإدارة المجتمع عقليا، بالاستعانة بالعلم أو إدارة المجتمع علميا، بالاستعانة بالعقل أو كليهما معا. وهذا يشمل -بطبيعة الحال- السلوك الديني والثقافي للمجتمع. وهنا يأتي السؤال المهم: هل عقلنة أنشطة المجتمع كافة وإدارتها علميا، لها تبعات سلبية على الإنسان؟

الإنجازات الكبرى التي حققها العلم/ العقل تزامنت مع ظهور أيديولوجيا علمية/ عقلية لم تقنع بإسقاط ما هو غيبي أو خارق للطبيعة عن عالمها، بل كانت مستعدة لتضع الإنسان برمته داخل إطار الطبيعة أو الكون المادي. فإذا كان الفقهاء في الماضي ناقشوا دور العقل في المسائل العقدية الحساسة، كقضية الأسماء والصفات، فإن الجدل حول العقل اليوم، أصبح يمس السلوك الديني البسيط ويحاول عقلنته، وإرضاخ أي أحكام أخلاقية للحسابات المنطقية، ما يقود نحو معاملة البشر كأنهم أشياء أو ظواهر طبيعية يمكن التعامل معها علميا وفق ما يقرره المنهج العلمي.

البشر ليسوا أشياء قابلة للقياس أو التحديد، والسلوك البشري الاجتماعي أو الديني لا يمكن له أن يرضخ للروابط والعلاقات والتفسيرات الكمية، ما يعني أن أفراد المجتمع يمكن التنبؤ بسلوكهم، وبالتالي إمكان السيطرة عليهم واستغلالهم والتلاعب بهم وتوجيه سلوكهم الجماعي وفق أهداف محددة مسبقة، وهذا سيحرم البشر من حريتهم. وكلنا نشاهد في المجتمعات الغربية كيف يتم توجيه الأفراد، وفق أنماط موحدة من السلوك، وهو ما يدعوه الفيلسوف الألماني هربرت ماركوز: الإنسان ذو البعد الواحد. وهي إن كانت مجتمعات متعددة عرقيا لكنها ليست متعددة ثقافيا. وهذا التنميط الثقافي والاجتماعي للإنسان الغربي تحديدا، هو نتيجة طبيعية لعقلنة المجتمع والتعامل مع سلوك أفراده وفق التخطيط والتقانة الاجتماعية التي تفرض عليهم الاختيار بين مسارات فعل محتمة وقابلة للتنبؤ، بمعنى أن الإنسان الغربي يعيش وسط مناخ علمي وعقلاني يفقده حريته دون أن يشع، ويعامل معاملة الأشياء والظواهر الطبيعية، وهو ما يسميه المفكرون الغربيون بالتشيؤ.

فإذا كان العلم/ العقل قد حقق إنجازات كبرى، فإنه كذلك وقع في إخفاقات لا حصر لها. وقيمة العلم/العقل ومكانته في تاريخ البشرية -إن كان بمناهجه التي طبقت أو نتائجه التي أثمرت- لا يعني تقديسه وجعله معيارا للحكم على كل الأنشطة الإنسانية، ومنها السلوك الديني للبشر. وهذا لا يعني الإطاحة بقيمة العلم/العقل في ذاته، وإنما الإطاحة بالتوظيف المؤدلج له، ونحن ندعو هنا إلى إعادة الاعتبار للأنشطة الإنسانية التي همشتها العقلانية الحديثة ومبادئ السوق الاستهلاكي.

في كتاب «الفلسفة: من الذي يحتاج إليها؟» تقول الكاتبة الأمريكية آين راند: «العقلنة هي غطاء، وهي عملية تزويد مشاعر المرء بهوية مزيفة، ومنحها تفسيرات ومبررات زائفة؛ من أجل إخفاء دوافعه، لا فقط عن الآخرين، ولكن في المقام الأول عن نفسه.

إن ثمن العقلنة إعاقة، وتشويه، وفي النهاية تدمير القوة المعرفية للفرد. والعقلنة عملية لا تتعلق بإدراك الواقع، وإنما هي محاولة لجعل الواقع يتناسب مع عواطف المرء».

ولأن المجتمعات الغربية وصلت لمستويات عالية من العقلنة المجتمعية، فالدافع لعملية التخطيط الاجتماعي الشامل أصبح يصب في مصلحة سوق العمل، حتى وإن كانت تتعارض مع حرية الإنسان وكرامته.