«إنني وحيد وخائف. فماذا أفعل؟».
عبارة ترد في قصة له -تجدها في هذه الصفحة- وشبيهاتها مئات من الجمل مترعة بالحزن في كتاباته، تختزل تاريخا طويلا من الخوف، والفزع والشك والاسترابة، والوجع والخيبات، قلق وجودي هائل ، وضحكات مكتنزة بمرارات، حملت «أحزان عشبة برية» عنوان مجموعته الأولى. ولأمر ما ظلت هذه الأحزان تمثل جل ما أبدع من قصائد شعر ترك كتابته، مكرسا حرفه للقصة القصيرة، مستعينا بأجواء الشعر و«أفنانه»، التي ربما لجأ إليها مستظلا وفارا من أوجاعه التي لازمته كظله حتى الرمق الأخير، حيث شوهد «جار الحميد»، قبل أشهر من رحيله الجمعة الماضية أمام صيدلية «آسر» حائل من قبل الدكتور محمود حسين الذي روى «لقد احتضنني جار الله باكيا، وقال: «لا أحد يتفهم ألمي أريد مسكنات فعالة لكل هذه الآلام».
جارالله الحميد " ابو تغريد" لم يعد معنا.. رحلةمن تعشيب الحرف وتقطير اللغة واجتراح الفن، والحب والنزق والصخب والغضب، وبهجة بكر انطوت.
----------
جار الله الحميد أكتوبر 2009
--------------
كان الباب مقفلا. والبنت تعلقت بالباب. أقول لها: إنهم غير موجودين بالتأكيد. فتنهرني باكية: بلى. إنهم بالداخل. إنهم مصريون. أقول لها: أعرف أنهم مصريون (مع أنني لا أعرف) ولكنهم غير موجودين. فتصيح بي مكررة نفس الكلام. كان المطر يدق الأبواب بعد أن غسل الشارع، ثم خلف فيه بحيرات صغيرة. واستمر بضرب الأسفلت. أمسكت بيدها. قلت لها: عندما يتوقف المطر تذهبين إليهـم. إن أهلك قلقون. قالت: من قال لك ذلك؟. قلت: هم جيراني فكيف لا أعرف؟ (ثم تذكرت أنني لم أرهم منذ شهور طويلة - منذ أن صرنا جيرانًا- إلا عند باب العمارة. داخلين أو خارجين) قالت لي وهي تمسح دموعها بكمها: إن أهلي نائمون الآن. ولن يستيقظوا إلا في الظهـيرة.
شاي
جلسنا متقابلين على الطاولة التي يحط عليها الذباب بكسل.
ويطير ببطء.
قال (كاف)- وهذا هو اسمه المستعار -: هل تبعد (تبوك) كثيرًا من هنا؟.
قلت مخمنًا: لا. ربما مائتي كيلومتر.
فتضايق مفتعلا الاغتباط:
زين. صلحوا السيارة!
قال (كاف) وهو يزفر:
ولكن مائتي كيلو متر كثيرة
قلت: ماذا نفعل هل تطلب من تبوك أن تقترب؟
قال غير آبه لسخريتي: وكم تبعد (معان) عن تبوك؟
قلت بآلية: حوالي ثلاثمائة كيلومتر.
نظر إلى ساعته. ثم وضع يده على جانب صدره الأيسر مستمعًا بحرص.
ابتسم للمرة الأولى. نفض ذبابة كسولة من على الطاولة. وقال: هيا ينا. نشرب الشاي الطيب في (معان) يا ولد!
ظلام يشبه البحر
حاولت أن أنزل السلم. لكن الظلمة رهيبة ومفزعة.
وضعت قدمي اليمنى على أول عتبة. سحبتها بسرعة إذ كدت أن أهوى. دق قلبي بسرعة حتى صار رأسي يهتز.
وضعت المفتاح بالباب. ألقيت نظرة على بحر الظلام الرهيب. دخلت إلى الشقة. وأضأت الأنوار. لم أشعر بالدفء. إنني وحيد وخائف. فماذا أفعل؟
رمقت التلفون بنظرة جانبية. أجرب؟. لا فائدة جلست بملل وحزن. لو كانوا وضعوا (لمبة) لنزلت إلى الشارع وتدبرت أمري.
المشكلة أن رجلي اليمنى أقصر من الأخرى. لهذا لا أستطيع ضبط توازني. ولو وقفت لانقطع نخاعي الشوكي. ومت!. مثل خالي!
* فبراير 1995
-------------
الحزين
جارالله الحميد
في الطائرة قدموا له الحلوى ولم يأكل!!. في المطار سأله أحد الباعة المستوردين إذا كان يشتري بسعر السوق الحرة المغري حتى اللذة أي شيء. فلم يجب!!. في البيت أرادت زوجته أن تقبله. فوعدها أن يقبلها في الغد. في الصباح ذهب إلى العمل. واشتغل (كالمكنة) وانصرف في الثانية والنصف تماماً. وعاد إلى البيت صامتاً. ولم يقبل زوجته. ولم يقرأ الجريدة. ولم يداعب الأطفال. ولم يذهب إلى الثلاجة ليشرب أي شيء. ولكنه ذهب إلى الفراش بشكل عمودي. ونام طول النهار.
استيقظ في التاسعة ليلاً. سمع الأطفال يتضاحكون عند التلفزيون. وهرب من الفراش. كانت زوجته تطبخ شيئاً للعشاء.
عندما نام الجميع ظل مستيقظاً. كتب لزوجته على ورقة صغيرة (حبيبتي : اعذريني لأنني رفضت قبلتك بالأمس وأنني لم أقبلك اليوم. فقد كنت حزيناً كأنني أحتضر).
عندما قرأت الزوجة ورقته في الصباح بكت وأيقظته. وقبلته كثيراً.
- هل أنت حزين الآن؟!.
ـ نعم ولكني سأعتاد. سأظل حزيناً. ولكن لن أكترث يا سيدتي.
وابتسما معاً. وكانا حزينين كشمس الشتاء!!.
-------------
الحمام
جارالله الحميد
كانوا يأكلون الأرز. وكانوا يتحدثون. كميات ضخمة كالتلال من الأرز.. وأحاديث. هذه المرة كانوا يتحدثون عن الأطفال. أحدهم يهز رأسه بكل ثقة الأحجار والكهوف المسلحة بالأسمنت والطوب.. ويقول لهم: الأطفال يمتلكون فصاحة وحجة!! لقد استطاع ابني الأصغر في هذا الصباح إقناعي بأن أجلب له دراجة!! وضحكوا حتى تناثر الأرز الأبيض المشبع بالدهن من أفواههم.. واستمروا يضحكون حتى عندما بدأوا يتناولون أطباق الفاكهة.
أحدهم ضحك بشكل أقسى.. وتحدث كالصراخ:
ولكن المدارس تعلمهم الضعف فيما بعد!!
سكتوا جميعاً. وصارت أعينهم أكبر. فأكمل: لدرجة أن والدي رفض أن يذهب معي لنصطاد الحمام البري.
- أخ.
هل قال لك إنه لا يطيق منظر الدم؟!
ضحكوا.
ـ أم هل قال إن الحمام البري جميل ولا يجب قتله؟
ضحكوا.
ـ لعله قال..
قاطعهم: تصوروا أنه عندما رأى الحمامة تنزف بين يدي بكي وقال: ألا يمكن أن يكون لها صغار ينتظرونها في البراري؟!
ولم يضحكوا هذه المرة. ولكن أحدهم قال:
ـ إن الأطفال مفزعون!!
وعافت أنفسهم الأكل!!
* من «وجوه كثيرة أولها مريم».
---------
*كاتب وقاص وشاعر
* ولد وعاش وتوفي في حائل/ السعودية
مجموعاته القصصية:
* أحـزان عـشـبـة بـريـة 1979
*وجوه كثيرة أولها مريم 1985
*رائحة المدن 1997
*ظلال رجـال هـاربـيـن 1998
عبارة ترد في قصة له -تجدها في هذه الصفحة- وشبيهاتها مئات من الجمل مترعة بالحزن في كتاباته، تختزل تاريخا طويلا من الخوف، والفزع والشك والاسترابة، والوجع والخيبات، قلق وجودي هائل ، وضحكات مكتنزة بمرارات، حملت «أحزان عشبة برية» عنوان مجموعته الأولى. ولأمر ما ظلت هذه الأحزان تمثل جل ما أبدع من قصائد شعر ترك كتابته، مكرسا حرفه للقصة القصيرة، مستعينا بأجواء الشعر و«أفنانه»، التي ربما لجأ إليها مستظلا وفارا من أوجاعه التي لازمته كظله حتى الرمق الأخير، حيث شوهد «جار الحميد»، قبل أشهر من رحيله الجمعة الماضية أمام صيدلية «آسر» حائل من قبل الدكتور محمود حسين الذي روى «لقد احتضنني جار الله باكيا، وقال: «لا أحد يتفهم ألمي أريد مسكنات فعالة لكل هذه الآلام».
حياته الصاخبة
جارالله ابن مدينة حائل، ظل وفيا لأعشاب البراري، نافرا من المدن الكبرى التي لا تتحمل نزقه ولا تتناغم مع تقلباته وحدة مزاجه، مثلما لا يتحمل هو ضجيجها وصخبها، فيعود دوما إلى مدينته حائل، مصغيا لأحزان شعابها، وأشجان عشب براريها الذي يتقن تماما إحالته إلى نصوص متفردة، شكلت واحدة من أجمل تجارب القصة الحديثة في السعودية. منتصف السبعينيات من القرن الماضي، حين أسس الدكتور عبدالله مناع -رحمه الله- مجلة اقرأ الإسبوعية المنوعة، ضمّن رؤيته الاستعانة بطلائع شبان الكتابة الجديدة -حينها- فكان جار الله أحد هذه الأسماء إلى جانب القاصين عبد الله باخشوين، وفهد الخليوي، فانتقل جارالله إلى جدة، لكنه لم يتآلف مع المدينة فرجع لمدينته، ليبق هكذا طوال عمره وحياته الصاخبة، يرتحل للمدن الكبرى يقيم فيها ردحا من الوقت حتى يملها أو تمله، يلقي قصصه، يجادل ويجالد مثقفيها ومبدعيها، وربما يهجوهم مطلقا عليهم جحيم شتائمه ولعناته، ليتخير آخر الوقت صعاليك يشبهونه، ينادمهم أغنياتهم، و«يجدع» آهاتهم، يقاسمهم تعبهم ويطلقهم بعيدا في براري قهقهاته وسخرياته مستوفية اللذعة، ممعنة في المرارات.تأثيرات الطفرة والإحساس بالغربة
إذا كان جار الله -حسب رؤية الناقد الدكتور محمد صالح الشنطي- حريصا في إبداعه على التشكيل التجريدي الرمزي المعبر عن إحساس الكاتب بالغربة متمثلة بالرحيل الدائب تارة، والعزلة الموحشة تارة أخرى، والتوحد مع الكائنات الأخرى ومكابداتها، وتتعدد طرق الحكاية واللغة التراكمية التي تحتشد بالجمل المليئة بالتقاط التفاصيل، فإنه يمثل أحد أهم كتاب جيل المرحلة الحديثة التي وظفت تقنيات فنية جديدة في الكتابة القصصية مطالع السبعينيات الميلادية، عمقها الراحل سباعي عثمان، وبرزت في عزفها بعد سباعي -طبقا للناقد فايز محمود ابا- أسماء عبدالله السالمي وسليمان سندي وعبدالله بامحرز وحسين علي حسين وعبدالله باخشوين وفهد الخليوي، ومحمد علوان، ثم انضم إليهم جار الله الذي نعته أبّا بـ«المهموم بالكتابة»، لافتا إلى «عامل اقتصادي حاسم لا بد أن يحتل بؤرة أي تحليل علمي»، وهنا يقصد أبّا «الوفرة النفطية» وما سمي بمرحلة الطفرة «حيث تأثير بالغ في تغيير ملامح المجتمع بشكل صارخ»، ولعل هذا يتقاطع مع فكرة الإحساس بالغربة التي قال بها الشنطي، والتي ميزت جل نتاج جار الله الإبداعي.. مثلما ميزته ضحكة لافتة، حشاها بالأحزان كلها الجمعة الماضية وأطلقها للمرة الأخيرة، ليصدم محبوه بأصدق ما في الوجود :جارالله الحميد " ابو تغريد" لم يعد معنا.. رحلةمن تعشيب الحرف وتقطير اللغة واجتراح الفن، والحب والنزق والصخب والغضب، وبهجة بكر انطوت.
----------
الكتابة متعة وهي مسؤولية أيضا
لم أكتب القصة القصيرة كشيء أرغب باقتنائه داخل مجتمع تهلهلت فيه قيم الحب، والمتعة التي تورثها نصوصي أنها ليست أكثر من تساؤلات وحفر في الذاكرة الجمعية بغية الوصول إلى خلق إبداع بقدر خصوصيته ينتمي إلى العالم. والقصة القصيرة هي من أصعب الفنون. لأنه في داخل العمل تكنيكات متعددة ولقد تأثرت بالسينما فجاءت معظم قصصي وهي تشبه مشاريع فيلمية. إنني إنسان أحب السلام والعدالة والوطن والناس وهذه هي مؤهلاتي لا غير. الكتابة هي متعة وهي مسؤولية أيضًا. والكاتب هو قنديل الظلام في مجتمع يعود حينا إلى الماضي فتشعر بقسوة النكوص. وأنا في النهاية في غاية الامـتـنـان لـنـادي حـائـل الأدبـي كـونـه طـبـع هـذه المجموعات لأنني لا أحتفظ بأعمالي بعد نشرها. إن كل مجموعة هي تاريخ مرحلة من القناعات الفنية والإنسانية، ولذا ستشعرون بالتنوع والذاكرة الملأى برائحة أسواق مضت مع من مضوا! وهي طالعة من الروح مثل راية محارب لا يريد أن يهزم! ولكنه يدرك حجم منافسيه من الضاربين صفحا عن هم وطن وناس. أعدكم بذلك.جار الله الحميد أكتوبر 2009
--------------
البيوت - ثلاث قصص قصيرة جدًا
بنت الجيرانكان الباب مقفلا. والبنت تعلقت بالباب. أقول لها: إنهم غير موجودين بالتأكيد. فتنهرني باكية: بلى. إنهم بالداخل. إنهم مصريون. أقول لها: أعرف أنهم مصريون (مع أنني لا أعرف) ولكنهم غير موجودين. فتصيح بي مكررة نفس الكلام. كان المطر يدق الأبواب بعد أن غسل الشارع، ثم خلف فيه بحيرات صغيرة. واستمر بضرب الأسفلت. أمسكت بيدها. قلت لها: عندما يتوقف المطر تذهبين إليهـم. إن أهلك قلقون. قالت: من قال لك ذلك؟. قلت: هم جيراني فكيف لا أعرف؟ (ثم تذكرت أنني لم أرهم منذ شهور طويلة - منذ أن صرنا جيرانًا- إلا عند باب العمارة. داخلين أو خارجين) قالت لي وهي تمسح دموعها بكمها: إن أهلي نائمون الآن. ولن يستيقظوا إلا في الظهـيرة.
شاي
جلسنا متقابلين على الطاولة التي يحط عليها الذباب بكسل.
ويطير ببطء.
قال (كاف)- وهذا هو اسمه المستعار -: هل تبعد (تبوك) كثيرًا من هنا؟.
قلت مخمنًا: لا. ربما مائتي كيلومتر.
فتضايق مفتعلا الاغتباط:
زين. صلحوا السيارة!
قال (كاف) وهو يزفر:
ولكن مائتي كيلو متر كثيرة
قلت: ماذا نفعل هل تطلب من تبوك أن تقترب؟
قال غير آبه لسخريتي: وكم تبعد (معان) عن تبوك؟
قلت بآلية: حوالي ثلاثمائة كيلومتر.
نظر إلى ساعته. ثم وضع يده على جانب صدره الأيسر مستمعًا بحرص.
ابتسم للمرة الأولى. نفض ذبابة كسولة من على الطاولة. وقال: هيا ينا. نشرب الشاي الطيب في (معان) يا ولد!
ظلام يشبه البحر
حاولت أن أنزل السلم. لكن الظلمة رهيبة ومفزعة.
وضعت قدمي اليمنى على أول عتبة. سحبتها بسرعة إذ كدت أن أهوى. دق قلبي بسرعة حتى صار رأسي يهتز.
وضعت المفتاح بالباب. ألقيت نظرة على بحر الظلام الرهيب. دخلت إلى الشقة. وأضأت الأنوار. لم أشعر بالدفء. إنني وحيد وخائف. فماذا أفعل؟
رمقت التلفون بنظرة جانبية. أجرب؟. لا فائدة جلست بملل وحزن. لو كانوا وضعوا (لمبة) لنزلت إلى الشارع وتدبرت أمري.
المشكلة أن رجلي اليمنى أقصر من الأخرى. لهذا لا أستطيع ضبط توازني. ولو وقفت لانقطع نخاعي الشوكي. ومت!. مثل خالي!
* فبراير 1995
-------------
الحزين
جارالله الحميد
في الطائرة قدموا له الحلوى ولم يأكل!!. في المطار سأله أحد الباعة المستوردين إذا كان يشتري بسعر السوق الحرة المغري حتى اللذة أي شيء. فلم يجب!!. في البيت أرادت زوجته أن تقبله. فوعدها أن يقبلها في الغد. في الصباح ذهب إلى العمل. واشتغل (كالمكنة) وانصرف في الثانية والنصف تماماً. وعاد إلى البيت صامتاً. ولم يقبل زوجته. ولم يقرأ الجريدة. ولم يداعب الأطفال. ولم يذهب إلى الثلاجة ليشرب أي شيء. ولكنه ذهب إلى الفراش بشكل عمودي. ونام طول النهار.
استيقظ في التاسعة ليلاً. سمع الأطفال يتضاحكون عند التلفزيون. وهرب من الفراش. كانت زوجته تطبخ شيئاً للعشاء.
عندما نام الجميع ظل مستيقظاً. كتب لزوجته على ورقة صغيرة (حبيبتي : اعذريني لأنني رفضت قبلتك بالأمس وأنني لم أقبلك اليوم. فقد كنت حزيناً كأنني أحتضر).
عندما قرأت الزوجة ورقته في الصباح بكت وأيقظته. وقبلته كثيراً.
- هل أنت حزين الآن؟!.
ـ نعم ولكني سأعتاد. سأظل حزيناً. ولكن لن أكترث يا سيدتي.
وابتسما معاً. وكانا حزينين كشمس الشتاء!!.
-------------
الحمام
جارالله الحميد
كانوا يأكلون الأرز. وكانوا يتحدثون. كميات ضخمة كالتلال من الأرز.. وأحاديث. هذه المرة كانوا يتحدثون عن الأطفال. أحدهم يهز رأسه بكل ثقة الأحجار والكهوف المسلحة بالأسمنت والطوب.. ويقول لهم: الأطفال يمتلكون فصاحة وحجة!! لقد استطاع ابني الأصغر في هذا الصباح إقناعي بأن أجلب له دراجة!! وضحكوا حتى تناثر الأرز الأبيض المشبع بالدهن من أفواههم.. واستمروا يضحكون حتى عندما بدأوا يتناولون أطباق الفاكهة.
أحدهم ضحك بشكل أقسى.. وتحدث كالصراخ:
ولكن المدارس تعلمهم الضعف فيما بعد!!
سكتوا جميعاً. وصارت أعينهم أكبر. فأكمل: لدرجة أن والدي رفض أن يذهب معي لنصطاد الحمام البري.
- أخ.
هل قال لك إنه لا يطيق منظر الدم؟!
ضحكوا.
ـ أم هل قال إن الحمام البري جميل ولا يجب قتله؟
ضحكوا.
ـ لعله قال..
قاطعهم: تصوروا أنه عندما رأى الحمامة تنزف بين يدي بكي وقال: ألا يمكن أن يكون لها صغار ينتظرونها في البراري؟!
ولم يضحكوا هذه المرة. ولكن أحدهم قال:
ـ إن الأطفال مفزعون!!
وعافت أنفسهم الأكل!!
* من «وجوه كثيرة أولها مريم».
---------
جار الله بن يوسف الحميد
*«1954 - 2022».*كاتب وقاص وشاعر
* ولد وعاش وتوفي في حائل/ السعودية
مجموعاته القصصية:
* أحـزان عـشـبـة بـريـة 1979
*وجوه كثيرة أولها مريم 1985
*رائحة المدن 1997
*ظلال رجـال هـاربـيـن 1998