محمد السعد

قد يستغرب القارئ الكريم، وصفنا للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، أبو الفلسفة الأوروبية الحديثة، بوصف الفقيه. هل هناك فعلا علاقة لديكارت الفيلسوف بالفقه العربي، وما نوع تلك العلاقة؟ علاقة ديكارت الفيلسوف بالفقه هي نفسها علاقة ابن رشد الفقيه بالفلسفة. هناك من يتجرأ ويصف ابن رشد بالفيلسوف، مع أنه فقيه ابن فقيه وحفيد فقيه، لذا سنكون أكثر جرأة ونصف ديكارت بالفقيه، لأن لدي قناعة راسخة بأن الترجمة الحرفية لكلمة فيلسوف هي فقيه. والفلسفة اليونانية هي المقابل الثقافي للفقه العربي. فالاختلاف بين الفيلسوف والفقيه هو اختلاف مرجعية لا أكثر، وليس اختلاف نشاط أو مجال معرفي. فالشاعر في روسيا يمارس النشاط العقلي نفسه للشاعر الجاهلي مع اختلاف الزمان والمكان والثقافة واللغة.

يصف ديكارت الفلسفة بأنها دراسة الحكمة، والحكمة مذكورة في القرآن الكريم في أكثر من مناسبة، كقوله تعالى «ويعلمهم الكتاب والحكمة»، والحكمة يفسرها بعض المفسرين بأنها الفقه أو التفقه في الدين. وهنا قد يتساءل القارئ عن الدافع وراء فلسفة ديكارت، والإجابة بلا شك أن الدافع وراء تفلسف ديكارت هو دافع ديني محض، ولو اطلعنا على كتابة «مبادئ الفلسفة» ودققنا النظر فيه، سنجد أنه مجرد كتاب في العقيدة، يحاول فيه ديكارت إثبات العقيدة الدينية الصحيحة التي يؤمن بها ويطرح الحجج لدفع الشبهة عنها. يقول رينيه ديكارت في كتابه محددا ماهية الفلسفة الحقيقية: «ثم إذا اكتسب عادة الاهتداء إلى الحقيقة في هذه المسائل، وجب أن يبدأ في جد بالإقبال على الفلسفة الحقة، التي جزءها الأول هو الميتافيزيقا التي تحتوي على مبادئ المعرفة، ومن بينها تفسير أهم صفات الله، ولا مادية النفوس».

وهنا يكشف ديكارت دوافعه من التفلسف بوضوح فالبحث في الأسماء والصفات هي مسألة عقدية دينية، وفي الحضارة العربية الإسلامية نعرف كلنا أن قضية أسماء وصفات الخالق هي أكثر قضية أشغلت الفقهاء العرب حتى أُفرد لها مجال خاص يعرف بعلم الكلام أو الفقه الأكبر كما يصفه الإمام أبو حنيفة، ويعرفه ابن خلدون بأنه: «علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة والمنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنة».

كان ديكارت في كتاب «مبادئ الفلسفة» يطرح الحجج لتوضيح العقيدة الدينية الصحيحة كما تمليها عليه ديانته المسيحية، فقد كان ديكارت مسيحيا متدينا، يدفعه إحساسه الديني وإيمانه لتوضيح العقيدة الصحيحة حسب مرجعيته المسيحية.

يقول ديكارت: «إننا حين نعرف وجود الله على نحو ما أوضحنا ههنا، نعرف أيضا جميع صفاته بقدر ما تستطاع معرفتها بنور الفطرة وحده».

لاحظ في الاستشهادات التي طرحناها أن ديكارت يحاول أن يعلم أبناء ديانته العقيدة الصحيحة، ففي كتابه «مبادئ الفلسفة» يناقش أيضا مسألة أخرى شغلت الفقهاء العرب، وهي مسألة «حرية الإنسان» وهل أفعال العباد مخلوقة أم أن هناك هامش حرية للإنسان تجعل منه خالقا لأفعاله الاختيارية.

وقد يحتج بعضنا بالقول، أن فلسفة ديكارت فلسفة عقلانية محايدة تمثل المشتركات الإنسانية وغير مرتبطة بديانة أو ثقافة معينة.

في كتاب «مبادئ الفلسفة» يقول ديكارت مؤكدا عقيدته الدينية بشكل واضح ومباشر:

«إنه يجب علينا أن نؤمن بكل ما أنزله الله، وإن يكن فوق متناول مداركنا، فإذا أنعم الله علينا بما كشفه لنا أو لغيرنا من أشياء تجاوز طاقة عقولنا في مستواها العادي، كأسرار التجسد والتثليث، لم يستعص علينا الإيمان بها مع أننا قد لا نفهمها فهما واضحا، وذلك لأنه لا ينبغي أن يقع لدينا موقع الغرابة أن يكون في طبيعة الله، وفي أعماله أشياء كثيرة تجاوز متناول أذهاننا».

نفهم من كلام ديكارت هنا جملة من الحقائق، ومنها إيمانه العميق بالمسيحية وبعقيدتي التثليث والتجسد بوصفهما عقيدتين مميزتين للديانة المسيحية.

وفي قوله «إنه يجب علينا أن نؤمن بكل ما أنزله الله، وإن يكن فوق متناول مداركنا» نجده هنا يؤكد قصور العقل البشري وعجزه ويؤكد بكل وضوح أنه يقدم النقل على العقل في المسائل المتعلقة بالعقائد الدينية.