يعاني الدارس والمطلع على تاريخ الفلسفة الغربية من وطأة المركزية الفكرية، وحصار الأفكار المتعلقة بالفلسفة والتي تصنع منها كيانًا يبدو في ظاهره متماسكًا ويسير ضمن خط زمني أحادي يقصي غالب ثقافات العالم. فالفلسفة في واقع الأمر ليست إلا النشاط الفكري لفهم الأديان السماوية وغير السماوية عند الشعوب اليونانية والأوروبية، أي أن الفلسفة تمثل النشاط الفقهي عند الشعوب اليونانية، فهي تعادل الفقه الإسلامي عند العرب والمسلمين. ولكن وبسبب التأثير الطاغي للمركزية الفكرية الغربية نزعت الفلسفة من سياقاتها الدينية والثقافية وأصبحت تقدم بصفتها مشتركا إنسانيا يمارسه المستنيرون والعقلانيون في أي مجتمع كان.
وبدافع من تحيزات عرقية وثقافية أصبح من يتبنى المعتقدات الدينية المتغلغلة في الفلسفة اليونانية ممثلا للعقلانية والتنوير، لذلك نجد المشائين العرب ومن يعتنق المنطق الأرسطي في الثقافة العربية يصنفون ضمن قائمة «المفكرين المستنيرين» مثل الفارابي الذي ارتبط اسمه بنظرية الفيض ذات الأصول الدينية اليونانية. والمنظومة الفكرية للفارابي تأسست على نظرية الفيض وانعكست على فهمه للوجود وللكون وللمجتمع، وبفضل تبنيه لهذه الأسطورة اليونانية أصبح ممثلًا للعقلانية ومناضلًا من أجل التنوير في الثقافة العربية.
وحسب معتقدات يونانية قديمة فإن نظرية الفيض تقول إن الموجودات صدرت أو فاضت من الأول، أي «....»، كما يفيض النور من الشمس، وقد فاضت -حسب نظرية الفيض- هذه الموجودات عن الله على مراتب متدرجة وليس دفعة واحدة، يقول الباحث المغربي محمد آيت حمو: «إن المذهب الفيضي يحاول أن يفسر العلاقة الكائنة بين العالم العلوي والعالم السفلي تفسيرًا فلسفيًّا جديدًا، فهو يضعنا أمام التدرجات الآتية ذكرها: الله في قمة الترتيب، ثم تأتي المرتبة الأولى وهي العقل الأول، ثم النفس الكلية، ثم الطبيعة الكلية، ثم نجد أنفسنا بعد أمام العالم السفلي، ونجد العناصر الأربعة (الأجسام)» نجد أن محتوى نظرية الفيض يكمن في محاولتها تفسير كيفية نشأة الموجودات المتنوعة، والمطلع على نتاج الفارابي الفكري يجد محاولاته لشرح نظرية الفيض ليبين لنا مراتب الموجودات، سواء كانت موجودات روحية أو كانت موجودات مادية. فهل كان الفارابي يؤمن فعلًا بوجود العقل الأول والعقل الثاني الذي قد يتدرج للوصول لعقل تاسع وعاشر؟
في المجتمعات اليونانية القديمة لم يوجد إيمان بمسألة خلق العالم من العدم، وهذا يشاهد واضحًا وجليًّا في نظرية الفيض التي لا تعترف بمسألة خلق العالم من العدم وتحاول أن تفسر الكون تفسيرًا يتعارض مع مسألة خلق العالم من العدم التي تمثل مسلمة من مسلمات الدين الإسلامي، لذا كانت نظرية الفيض تحديا عقديا للفقهاء في الحضارة الإسلامية، وهذا ما جعل الفارابي يواجه انتقادات كبيرة بسبب تبنيه لأسطورة الفيض التي شكلت منعطفًا حادًا في بنية الفكر العربي الإسلامي, فقد أدخل الفارابي خرافة يونانية وحاول أن يوفق بينها وبين العقائد الإسلامية. أخذت أسطورة الفيض تتمدد وتتشعب على هيئة معتقدات دينية دخيلة على الثقافة العربية، وقد وجدت هذه الأسطورة حاضنة فكرية واجتماعية في المجتمع العربي القديم.
العجيب أن هذه الأسطورة تصنف بأنها (فلسفة عقلانية) ومعتنقوها في الثقافة العربية كالفارابي وابن سينا، يصنفون في قائمة العقل والتنوير في مواجهة قوى الظلام وأعداء العقل الذين كانوا يحاولون دحض أسطورة الفيض. إن التحيزات العرقية والثقافية صنعت تاريخًا متخيلًا للفلسفة وأبطالها -كما أسلفنا- وصنعت مشتركًا إنسانيًا متوهمًا بعد أن نزع عن الفلسفة محتواها الديني والأسطوري. ولا يمكن أن يوضع الفارابي أو ابن سينا في قائمة التنوير وهما يؤمنان بمثل هذه الأساطير التي حاول الفقيه الغزالي أن يفندها ويدحضها في كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة».
وبدافع من تحيزات عرقية وثقافية أصبح من يتبنى المعتقدات الدينية المتغلغلة في الفلسفة اليونانية ممثلا للعقلانية والتنوير، لذلك نجد المشائين العرب ومن يعتنق المنطق الأرسطي في الثقافة العربية يصنفون ضمن قائمة «المفكرين المستنيرين» مثل الفارابي الذي ارتبط اسمه بنظرية الفيض ذات الأصول الدينية اليونانية. والمنظومة الفكرية للفارابي تأسست على نظرية الفيض وانعكست على فهمه للوجود وللكون وللمجتمع، وبفضل تبنيه لهذه الأسطورة اليونانية أصبح ممثلًا للعقلانية ومناضلًا من أجل التنوير في الثقافة العربية.
وحسب معتقدات يونانية قديمة فإن نظرية الفيض تقول إن الموجودات صدرت أو فاضت من الأول، أي «....»، كما يفيض النور من الشمس، وقد فاضت -حسب نظرية الفيض- هذه الموجودات عن الله على مراتب متدرجة وليس دفعة واحدة، يقول الباحث المغربي محمد آيت حمو: «إن المذهب الفيضي يحاول أن يفسر العلاقة الكائنة بين العالم العلوي والعالم السفلي تفسيرًا فلسفيًّا جديدًا، فهو يضعنا أمام التدرجات الآتية ذكرها: الله في قمة الترتيب، ثم تأتي المرتبة الأولى وهي العقل الأول، ثم النفس الكلية، ثم الطبيعة الكلية، ثم نجد أنفسنا بعد أمام العالم السفلي، ونجد العناصر الأربعة (الأجسام)» نجد أن محتوى نظرية الفيض يكمن في محاولتها تفسير كيفية نشأة الموجودات المتنوعة، والمطلع على نتاج الفارابي الفكري يجد محاولاته لشرح نظرية الفيض ليبين لنا مراتب الموجودات، سواء كانت موجودات روحية أو كانت موجودات مادية. فهل كان الفارابي يؤمن فعلًا بوجود العقل الأول والعقل الثاني الذي قد يتدرج للوصول لعقل تاسع وعاشر؟
في المجتمعات اليونانية القديمة لم يوجد إيمان بمسألة خلق العالم من العدم، وهذا يشاهد واضحًا وجليًّا في نظرية الفيض التي لا تعترف بمسألة خلق العالم من العدم وتحاول أن تفسر الكون تفسيرًا يتعارض مع مسألة خلق العالم من العدم التي تمثل مسلمة من مسلمات الدين الإسلامي، لذا كانت نظرية الفيض تحديا عقديا للفقهاء في الحضارة الإسلامية، وهذا ما جعل الفارابي يواجه انتقادات كبيرة بسبب تبنيه لأسطورة الفيض التي شكلت منعطفًا حادًا في بنية الفكر العربي الإسلامي, فقد أدخل الفارابي خرافة يونانية وحاول أن يوفق بينها وبين العقائد الإسلامية. أخذت أسطورة الفيض تتمدد وتتشعب على هيئة معتقدات دينية دخيلة على الثقافة العربية، وقد وجدت هذه الأسطورة حاضنة فكرية واجتماعية في المجتمع العربي القديم.
العجيب أن هذه الأسطورة تصنف بأنها (فلسفة عقلانية) ومعتنقوها في الثقافة العربية كالفارابي وابن سينا، يصنفون في قائمة العقل والتنوير في مواجهة قوى الظلام وأعداء العقل الذين كانوا يحاولون دحض أسطورة الفيض. إن التحيزات العرقية والثقافية صنعت تاريخًا متخيلًا للفلسفة وأبطالها -كما أسلفنا- وصنعت مشتركًا إنسانيًا متوهمًا بعد أن نزع عن الفلسفة محتواها الديني والأسطوري. ولا يمكن أن يوضع الفارابي أو ابن سينا في قائمة التنوير وهما يؤمنان بمثل هذه الأساطير التي حاول الفقيه الغزالي أن يفندها ويدحضها في كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة».