محمد السعد

نجح أبو الطيب المتنبي بعبقريته الفذة في رسم صورة البطل وإظهار شخصيته المتفردة في قصائده الخالدة. والبطولة هنا لا تقتصر على الشجاعة في مقارعة الأعداء وإلحاق الهزيمة بهم، بل تتجاوزها نحو مجمل الصفات الإنسانية التي يتحلى بها سلوك البطل من قيم وممارسات إنسانية تجعل من شخصية البطل المحرك الرئيس لعجلة التاريخ كما يعتقد بعض المؤرخين. وبعض فلاسفة التاريخ اختزلوا التاريخ في الأحداث التي يصنعها الأبطال. البطل عند الشعوب اليونانية على سبيل المثال، أكثر من مجرد إنسان، فهو نصف إله وأسطورة تمتلك قدرات خارقة للعادة لا يملكها الناس العاديون.

البطل، بما يملكه من مُثُل عليا، أكثر من كونه محاربا شجاعا في ميادين القتال، إنه نموذج يرغب الناس في الاقتداء به وتلمس سيرته ومآثره التي أثارت الحيرة في الوعي الإنساني وكأنه محاط بهالة سحرية تثير الدهشة في شخصيته الفريدة. فلا يسع الناس سوى الوقوف أمام بسالته في قتال أعدائه كما يقفون أمام الخوارق والمعجزات وكأنه يخفي في أعماقه قوى خفية، لا تقتصر على نجاته من أعدائه وحسب بل تمتد إلى نجاتهم معه. ومن هنا نشأت ظاهرة عبادة الأبطال في عصور مبكرة من التاريخ.

في قصائد المتنبي نستطيع تلمس عظمة الأبطال في عصور قديمة راضخة لاقتصادات الغزو والحرب، ويظهر فيها البطل وكأن هناك قوى غيبية تراقبه وتحميه، فكلما زادت جراح الأمة وأحزانها زاد طلبها لقدوم البطل لينتشلها من ضعفها ويحقق لها ما تصبو إليه من العدالة والمساواة، فهو عامل من عوامل الشعور بالأمن والاستقرار والحماية عند الشعوب، ومن أجل ذلك حاز البطل على النصيب الأكبر في أدب الشعوب القديمة، وتفننوا في ذكر خصائصه الفريدة، فكل شعوب العالم دون استثناء تغنت بمآثره العظيمة لارتباطه عضويا بقومه وأبناء شعبه وقبيلته، إنه نتاج ثقافتهم ورؤيتهم للكون والحياة.

في قصائد المتنبي يأتي البطل في ظروف غامضة وأوقات عصيبة، يأتي دون سابق إنذار بعد أن يفرض إرادته على مسرح التاريخ، إنه تعبير صادق عما تجيش به نفوس الجماهير، وقلما يدرك طبيعة البطل أناس عاشوا في زمن السوق الاستهلاكي والتجارة الحرة وانغمسوا في عالم المال والأعمال، فالبطل في عصور الغزو والسيف يترفع عن ممارسة التجارة ويزهد في تعلم الصناعة وينظر للحياة عبر رؤية لا ترضخ لقوانين العرض والطلب، أبطال المتنبي ليسوا كأبطال السوق الذين نجحوا في تحقيق الأرباح من الصفر وانتشال الشركة التجارية من الإفلاس.

ينظر أنصار السوق وكُتاب الليبرالية الاقتصادية لأبطال المتنبي نظرة قاصرة تعبر عن أنانية السوق وجشع رجال الأعمال. العلاقة بين المادح والممدوح والشاعر وبطله، ليست علاقة ربح وخسارة أو عرض وطلب أو دعاية لمنتج استهلاكي، فغرض التكسب يعد هدفا عرضيا هامشيا في قصائد المتنبي وليس الأساس فيها، البطل في قصائد المتنبي ينهض بمهامه في واقع الحياة لأنه مرتبط بالأرض والجماعة والقضية لتحقيق مُثُل الجماعة الأخلاقية التي ترنو لها. لذا يحتفل المتنبي بأبطاله لإبراز تاريخ أمته.

هل هناك من يتفوق على المتنبي في وصف البطولة الذي أصبح غرضا رئيسا في شعر المتنبي؟ جمال وروعة البطولة والأبطال في قصائد المتنبي لا مثيل لها في أدب الشعوب كافة. وحتى ملاحم هوميروس التي زخرت بقصص ومآثر الأبطال كأوديسيوس وأخيليس، لم تعكس البطولة الإنسانية النابعة من أعماق المجتمع وتستمد وجودها من حياة وواقع الناس كما جسدها المتنبي في أبطاله بما يمثلونه من بطولة إنسانية بشرية خالصة تخلو من الخرافة والأسطورة.

يسخر السوق وأنصاره اليوم من أبطالنا وقيمنا التي زخر بهم تراث الأدب، فالسوق أصبح يقدم لنا أبطاله الحمقى الذين يملؤون وسائل التواصل الاجتماعي، أبطال «السوشال ميديا» ونجوم الفن الرخيص والمحتوى الهابط. يحب السوق هذا النوع من البطولة والأبطال، فهم قادرون على تسويق منتجاته ووجباته السريعة وعطوراته وملابسه الزاهية بما يملكه هؤلاء الأبطال من قدرات على صناعة التفاهة في كل وقت وحين.