محمد السعد

في كتاب «الرجال من المريخ والنساء من الزهرة»، يصف الكاتب الأمريكي جون غراي كتابه بقوله: «إن كتاب الرجال من المريخ والنساء من الزهرة يعتبر دليل علاقات الحب. إنه يظهر مدى اختلاف الرجال والنساء في كل قطاعات حياتهم. إنه ليس من المؤكد فقط أن الرجال والنساء يتواصلون بطرق مختلفة، ولكنهم يفكرون ويشعرون ويستوعبون، ويكونون ردود أفعالهم، ويستجيبون ويحبون ويحتاجون، ويعبرون عن عرفانهم بطرق مختلفة. إنهم تقريبا يبدون كما لو أنهم من كوكبين مختلفين. يتكلمون لغتين مختلفتين ويحتاجون إلى تغذية مختلفة».

كانت قضايا فهم الجنس الآخر من أشد القضايا إلحاحا في عصر السوق الحر والمال والأعمال، والعيش وسط المدن العصرية. ويعد كتاب غراي من أجود الكتب في تناول العلاقة الجدلية بين الرجال والنساء، حيث افترض أن أغلب الخلافات بين الجنسين نابعة عن نقص في فهم الجنس الآخر، وهذا النقص يعود لقلة فهمنا مدى الاختلاف بين طبيعتي الرجل والمرأة، حتى أفترض مجازيا أنهما كانا يعيشان في كوكبين مختلفين، وجمعهما سحر الحب على كوكب الأرض.

تناول كتاب جون غراي تلك العلاقة الجدلية بين الجنسين من منظور نفسي عميق، وتحليل الصفات النفسية البشرية المشتركة بين كل شعوب العالم، فالكاتب يؤمن بوجود الاختلاف في الطبيعة، وأخذ يناقش هذا الاختلاف، لمعالجة الخلاف بين الجنسين دون توجيه سهام الاتهام للثقافة والأدب واللغة ورجال الدين، لذلك نجح الكتاب في الوصول لكل أزواج العالم بمختلف ثقافاتهم ولغاتهم.

في الجانب الآخر، نجد الفكر النسوي - في الغرب تحديدا - يتناول العلاقة بين الذكور والإناث من زاوية مختلفة، حيث إنه يعتقد أن أي اختلاف بين الجنسين إنما هو نتيجة ثقافة المجتمع. وبناء على هذا الافتراض، قامت أغلب الدراسات النسوية الغربية، وما يتعلق بها من فلسفة ونقد أدبي، وأصبحت في مجملها مذهبا يدعو إلى تحرير اليد العاملة من خلال دراسة العلاقة الجدلية بين ما هو بيولوجي في المرأة وما هو من صنيع الثقافة والمجتمع. ونريد أن نطرح هنا سؤالا متعلقا بالدوافع الاجتماعية لنشأة الفكر النسوي: هل لمجتمع المدينة علاقة بشكل أو بآخر بنشأة الفكر النسوي؟.

إن هجرة ملايين البشر تجاه المدن، وتركهم القُرى والبيئات الزراعية التي عاشوا فيها، واكتسبوا منها نمط عيشهم، ومجموعة القيم الثقافية التي تحكم سلوكهم الاجتماعي، لم تكن هجرة جسدية من موقع جغرافي لآخر، بل أخذت هجرة ملايين البشر طابعا صراعيا من بيئة الريف ذات العلاقات البسيطة إلى مجتمع المدينة المعقد، مجتمع الصناعة وبؤرة المال والأعمال، فالمدينة في الحقيقة ليست إلا سوقا يسكنها ملايين العمال المهاجرين. هذه السوق الضخمة، المتركزة في بقعة جغرافية محدودة، لها منظومة القيم الخاصة بها التي ستفرضها على ساكنيها وتبرمجهم عليها، بوعي أو دون وعي منهم، وستصبح منظومة القيم تلك التي تفرضها المدينة على المجتمع طبيعية وعقلانية وتقدمية.

لمجتمع المدينة تأثيره الطاغي في الأفراد نتيجة الواقع الاقتصادي القهري المحيط به، فهو يمارس ضد الأفراد سلوكا جبريا، لمواكبة مبادئه ومفاهيمه عبر تكييف الأفراد ضمن نطاق علاقات اجتماعية جديدة، تتوافق مع نمطه القائم على العلاقة الجدلية بين الإنتاج والاستهلاك. هذه النقلة النوعية ما بين الريف والمدينة على مستوى الثقافة ونمط العلاقات الاجتماعية نتج عنها بزوغ الفكر النسوي، الذي سيناقش أوضاع النساء في المجتمع الجديد، مجتمع المدينة وسوق العمل، وهل يملكن الكفاءة والقدرة الكافيتين لمنافسة الذكور المهيمنين على الفرص الوظيفية والمناصب الإدارية التي يقدمها سوق العمل؟.

إن سوق العمل اليوم هو المحرك الرئيس لهذه المعركة الكونية بين الذكور والإناث، ولكنه يخفي نفسه بين ثنايا الدراسات النسوية وأعمال النقد الأدبي.

هذه كانت الملامح الثقافية التي ارتبطت بظهور الفكر النسوي في الغرب. ولكن كيف انتقلت الحركة النسوية للعالم العربي؟ أو هل هناك حركة نسوية حقيقية في العالم العربي غير متأثرة بالأفكار الغربية؟. ما زال الناقد الأدبي العربي يستهلك - بصورة سلبية - الأدوات المعرفية الغربية، ويستعمل مصطلحاتها في النظرية والتطبيق، وفي التحليل والتفسير، فأدوار الناقد النسوي ليست في الواقع إلا صدى للأفكار الغربية. إنه مجرد وسيط لنقل الأفكار دون أن يقدم أي أفكار إبداعية أو رؤية مستقلة في تعاطيه مع الأعمال الأدبية القديمة أو الحديثة.

من جهة ثانية، فإن كثيرا من الأفكار النسوية الغربية اُستغلت، بصورة انتهازية، بواسطة الناقد النسوي الشعوبي في توجيه سهام التجريح لتراث الحضارة العربية الإسلامية الأدبي والعلمي، من خلال استخدام مصطلح «الذكورية»، فكلمة «الذكوري» أو «الثقافة الذكورية» يستخدمها الناقد الشعوبي بصورة سلبية للغاية، حيث إنها في الواقع «شتيمة قاسية»، تعني الشخص السادي المتسلط على النساء، و«الثقافة الذكورية» هي تلك التي تزدري النساء، وتحاول قمعهن في المجتمع. كلمة «الذكوري» أخرجت من سياقها في الدراسات الغربية، وأصبحت وسيلة لتوجيه الاتهامات، فالنحو والنحويون والفقه والفقهاء والتفسير والمفسرون واللغة واللغويون والعروض والعروضيون والشعر والشعراء في الحضارة العربية الإسلامية أُقصيت في خانة «الثقافة الذكورية»، وكل من ينتمي لها من العلماء والمفكرين يمثلون الثقافة الذكورية. إنه تراث الذكوريين الأشرار وثقافتهم، حتى أصبحت الحضارة العربية الإسلامية برمتها حضارة ذكورية، تصنع المؤامرات والدسائس الثقافية للجنس الآخر من وجهة نظر الناقد النسوي.