وترسيخًا لقيم الشفافية وإعلاء لمبادئ الحوكمة، أعلن هذا الأسبوع المجلس الصحي السعودي عن طرح مشروع (نظام الوقاية من متلازمة العوز المناعي المكتسب «الإيدز» وحقوق المصابين وواجباتهم) على منصة «استطلاع»، داعيًا جميع المواطنين والمقيمين والمختصين والخبراء إلى تقديم مرئياتهم حول المشروع الذي يهدف إلى تحسين الأنظمة الصحية، وتعزيز جودة وكفاءة الخدمات المقدمة للمرضى.
تعكس هذه الخطوة حرص الحكومة على حث جميع الوزارات والأجهزة الحكومية على طرح مشاريع الأنظمة التي ما زالت في طور الدراسة عبر منصة «استطلاع» للاستفادة ليس فقط من آراء المختصين، بل من جميع المواطنين والمقيمين، وذلك لتعزيز المشاركة المجتمعية وتحفيز أفراد المجتمع على الإدلاء بدلوهم في كل ما يحقق ويصون حقوقهم، وضمان توافق الأنظمة مع احتياجات المجتمع ومصالحه. وقد تستمر طرق التعبير عن الرأي بعد وضع التشريع ضمن عمليات تقييم الأثر التشريعي.
تحقّق هذه التجربة السعودية الرائعة العديد من المكاسب، في مقدمتها استشراف آراء المجتمع والجهات المعنية حول المشاريع والأنظمة والتعديلات القانونية الجديدة والمشاركة بتقديم مرئياتهم وملاحظاتهم حول الأنظمة والمشاريع المطروحة، وهو ما يُمكّن الجهات التشريعية والتنفيذية من الاستفادة من هذه الملاحظات لتطوير المشاريع، وذلك ضمن مبادئ الشفافية التي تركز عليها رؤية السعودية 2030.
ومع أن المشاركة في المنصة متاحة للجميع، إلا أنه ــ بطبيعة الحال ــ يتم التركيز على مشاركة الخبراء والمختصين، إضافة إلى عناصر القطاع الخاص، والمؤسسات الأكاديمية، والمجتمع المدني والمؤسسات المهنية مثل غرف التجارة والصناعة التي تشارك بمرئياتها نيابة عن القطاعات التجارية والصناعية.
مساعي المملكة لإشراك أفراد المجتمع في كل ما يخصهم من قوانين وتشريعات وقياس جودتها وكفاءتها تندرج ضمن طُرق التعبير عن الرأي، والتي تمثّل رقيبًا على العمل التشريعي. وإن كانت فرنسا قد سبقت في هذا المجال من ناحية تاريخية عبر مجلسها الدستوري، فإن التجربة السعودية تتفوق بجزئية امتثال كل الوزارات ومؤسسات الدولة لحقوق الأفراد وضمان مشاركتهم في عملية الصياغة التشريعية. وهذا النهج يعبر عن نظرة أكثر شمولية لأنها لا تكتفي فقط بآراء الخبراء والمختصين، بل تمازج بينها وبين نبض الشارع السعودي، وتأخذ بعين الاعتبار آراءه وطموحاته في مشروعات الأنظمة واللوائح وما في حكمها.
إضافة لذلك، فإن هذه التجربة السعودية الرائدة تتفوق بأنها تضمن تقديم حرية الرأي والتعبير على التصرفات الصادرة من الحكومة، فالمشاركة الشعبية في صياغة القوانين ليست لاحقة، بل سابقة، وتوضح خارطة الطريق للمشرّع، وترسم الخطوط العريضة لمشاريع القوانين.
وعودة إلى مشروع (نظام الوقاية من متلازمة العوز المناعي المكتسب «الإيدز» وحقوق المصابين وواجباتهم)، فهو إضافة جديدة تعكس حرص السعودية على كفالة حقوق كل أفراد المجتمع، بغض النظر عن أوضاعهم الصحية أو حالاتهم المجتمعية، وتؤكد اهتمامها الكبير بحقوق كل أفراد المجتمع.
فمشروع النظام يشدّد على عدم جواز امتناع أي جهة صحية عن تقديم الرعاية الطبية اللازمة لأي مصاب بسبب إصابته، وضرورة أن تحصل المرأة الحامل المصابة بالمرض وطفلها على الرعاية الصحية اللازمة، ومنع إجبارها على الإجهاض أو حرمانها من حضانة أطفالها بسبب إصابتها. بل إن مشروع النظام يكفل للمريض الحق في الزواج.
كما ينص على عدم وجوب ترحيل المقيمين المصابين بفيروس الإيدز إلى بلدانهم، وذلك لعدم وجود حاجة صحية تستدعي ذلك، نظرًا لتطور المعرفة بطرق انتقال العدوى. وهذه الرؤية الحكيمة تؤكد أن المملكة تتعامل مع المقيمين على أرضها بطريقة تعاملها مع المواطنين نفسها، دون تمييز أو تفرقة.
هذه أبرز ملامح النظام الذي لا شك سوف يشكّل إضاءة إنسانية جديدة تضاف إلى المنظومة العدلية السعودية المتكاملة التي تشهد طفرة غير مسبوقة، في ظل هذا العهد الميمون الذي نعيشه تحت ظل مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، حفظهما الله.
ومع تجديد التوجه بإشراك قطاعات المجتمع كافة في مناقشة وصياغة مشاريع القوانين التي تهمهم، فإنني أتوقع أن تكون المحصّلة النهائية أكثر من رائعة، لأن آليات استطلاع الرأي سوف تؤدي لزيادة الثقة بين الحكومة والمجتمع، وتعزيز ثقة المواطنين في عملية صنع القرار. إضافة إلى تحسين جودة الأنظمة عبر وجود آراء متعدّدة من جهات مختلفة، وهو ما ساعد على تطوير أنظمة أكثر دقة وتوافقًا مع احتياجات المجتمع. كذلك فإن هذه الآليات سوف تحفّز المجتمع على تقديم أفكار جديدة تسهم في تطوير الأنظمة والمشاريع، وهو ما يؤدي لتشجيع الابتكار والمشاركة.
مع كل تلك الإيجابيات إلا أن هناك تحديات عديدة تبقى حتمية، ولا بد من أخذها في الاعتبار حتى تنضج هذه التجربة وتؤتي ثمارها وتحقق الأهداف المرجوة منها، وفي مقدمة تلك التحديات زيادة الوعي المجتمعي بأهمية المشاركة في استطلاعات الرأي وتأثيرها على القرارات. كذلك فإن توفيق الآراء المتنوعة التي سترد إلى المنصة يمثل تحديًا، خصوصًا عند وجود تضارب في الرؤى.
ومن الأهمية أيضًا توسيع نطاق الاستطلاع ليشمل جميع المناطق والفئات، والتركيز على وجهات نظر الفئات الأكثر تأثرًا بمشاريع القوانين وأخذ آرائها بعين الاعتبار، ولا بد أيضًا من تعزيز مناخ الشفافية عبر نشر تقارير مفصلة عن كيفية استخدام الآراء لتطوير المشاريع، وأخيرًا أشدد على ضرورة التوسع في الاستعانة بأدوات التقنية الحديثة واستخدام مخرجات الذكاء الاصطناعي لتحليل الآراء واستخلاص أبرز التوجهات.
لذلك أرى أن التجربة السعودية في استطلاع الرأي حول مشاريع الأنظمة والقوانين تمثل نموذجًا رائدًا يكشف عن توسع القيادة الحكيمة في تحقيق المشاركة المجتمعية، وحرصها على استشراف كل الآراء ووجهات النظر، وإشراك المواطنين والمقيمين، وكل ذلك سيؤدي دون شك إلى تعزيز الحوكمة والشفافية، وزيادة مشاعر الانتماء الوطن.