رحم الله أحمد رحال الشيباني (1923/ 1995) الذي وصف المثقف بأنه منتم وملتزم وأهم شروط الالتزام أن تكون هناك (رسالة تتمحور حولها غاياته كافة، وأن يكون له مبدأ ينتظم نشاطاته كافة، وعقلانية ضمير تحدد اتجاهاته وترصد مساراته، ولذلك فإن الالتزام يعني الإخلاص في العمل والصدق في القول والاستقامة في المسلك، الأمر الذي يجعل المثقف ملتزماً أكثر من البشر الآخرين كافة، وذلك لأن المثقف أعرف الناس بالواجب وأرهفهم حسَّاً بالمسؤولية..) ص641 من كتاب (أحمد الشيباني أو ذيبان الشمري..).

إن أقرب شخصية تذكرني بالشيباني في هذه المسألة بالذات هي شخصية بديع الكسم (1924- 2000)، حيث ينتميان تقريباً للمعنى نفسه في فهم (الالتزام) مع فارق التجربة وتساوي الجيل، حيث يقول بديع الكسم في بحث (الحرية أساساً: الإنسان في حياته مع الناس إنسان ملتزم، والالتزام مزيج عبقري من التمرد والتضحية، فهو تمرد مشبوب على الشر في أشكاله كلها، ورفض قاطع لكل ما يسلب الإنسان شرف الوجود وكرامته، وهو في الوقت نفسه تعلق بالقيم الكبرى واستعداد دائم لترسيخها بالتضحيات، وهذا يعني أن الالتزام حر في «لائه» و «نعمه» ــــــ «لا ونعم» ــــ إنه حر مرتين.) ص11، مجلة المعرفة، دمشق، العدد 62، 1967.

قرأت كتاب (أحمد الشيباني أو ذيبان الشمري: سيرته.. فلسفته.. معاركه) للقدير محمد بن عبدالله السيف، واضطررت بعد الانتهاء من هذا الكتاب الذي جمع بين صفتين قد تتناقضان غالباً، إلا في هذا الكتاب فقد اجتمعت (شيق ودسم) في (670) صفحة، أقول انتهيت منه ثم تركته عامداً ثلاثة أسابيع قبل أن أكتب لا عنه ولا فيه بل من خلاله تصورات عن الشيباني في الثمانينيات وشبيبة الحداثة آنذاك.


من الطبيعي ابتداء أن أتفق مع عبدالله الغذامي في توصيفه لبعض معارضيه بأنهم ينتمون للحداثة الرجعية، وهذا توصيف وصف به سعد البازعي كمثال للحداثة الرجعية في السعودية في كتابه (حكاية الحداثة) ص7 وما بعدها، متناسياً نفسه فالفرق بين البازعي والغذامي، فرق في الدرجة وليس في النوع، فالبازعي عاش (الركمجة/ركوب الأمواج) كلعبة أتقنها باحتراف حتى الآن، ولكنه مقارنة بالغذامي فلن يلبس أسطوانة الأكسجين للغوص في بحر الحداثة كما فعل الغذامي وبعض رفاقه.

إذن لماذا أرى الغذامي يمثل نسيجاً من الحداثة الرجعية أقل حدَّة وأخف وطأة من البازعي، لأنه ببساطة ينتمي لإحدى مدارس الحداثة، ولكنها مدرسة تؤدي (للمادية الميكانيكية/السكونية/ كما ذكر ذلك الشيباني في كتاب السيف) وخلافي مع هذه المدرسة وكل ما ينتج عنها من أفكار أنها (جامدة/مغلقة الأفق)، بينما الحداثي (الخلاَّق) لن يكون إلا (ديناميكياً) علم ذلك أم لم يعلم، فطبيعته (جدلية)، قناعاته اليوم لن تكون هي بعد سنتين فكيف بعقد أو نصف قرن، ولنلاحظ الغذامي مثلاً، فلو كان ينتمي (للفكر الديناميكي) بطبعه لكان متحفزاً للتخلص من فهمه (النسقي) ولو من باب (القابلية للتكذيب/كارل بوبر) لكنه منذ عقود بقي يكثف قراءاته باتجاه جعله أحياناً يعيش (الانتقائية) بغطاء الموضوعية دون أن يشعر.

سأحاول هنا أن أعامل الفكر الحداثي كما أعامل الفكر الديني، فأضع خطاً مستقيماً (ينتمي لهذا العصر الحديث)، وأرتب الأشخاص وفق هذا الخط الحديث، فمثلاً في (الفكر الديني) سنضع في أقصى يمين هذا الخط (أسامة بن لادن وأتباعه) وأضع في أقصى اليسار (مدرسة لاهوت التحرير العربي/حسن حنفي باعتباره مثالاً وليس حصراً) وهذه المدرسة أظنها تحتاج إلى استقراء ميكروسكوبي يستجلي ما بداخلها من تباينات تحدد الموقف من (الآخرين) باعتبارهم (الأغيار) كاستعادة لنقاء (العقيدة) بالمعني التوراتي اليهودي، وهي الأقرب (للشعبوية) التي ترى اللونين (الأبيض والأسود) فقط، بخلاف الفهم الشعبي (المتسامح) والقادر على رؤية تداخل الألوان السبعة، بينما (نقاء العقيدة) بالمعنى التوراتي اليهودي، يرى في التنوع والتعددية خرقاً لمبادئ التوحيد، وامتداداً وثنياً يمتح من فلسفة اليونان مخرجاته، وعندما تسأله عن التعددية في الإسلام والانفتاح على مصاهرة أهل الكتاب.... إلخ من أحكام عاشها المسلمون الأوائل في فترة (الإسلام الأصيل) ثم انكماش هذا المعنى التعددي مع توسع (الإسلام الأصولي) وصولاً إلى زمننا المحتقن بالمزايدة على (سلف الإسلام الأصيل) في عدم تصفيتهم للأعراق والأديان والكنائس والمعابد الموجودة في شمال جزيرة العرب وجنوبها، بل وعدم المساس بالآثار والتماثيل في بلاد الرافدين حتى جاءت داعش ابنة القاعدة!!

ذهبت بعيداً وأعود لخط الفكر الحداثي الذي أضع في أقصى يمينه (الرجعي) سعد البازعي كأحد المنتمين لجيل الثمانينيات، ولكنه لن يبتئس من هذا التوصيف إذا ما عرف أنه (شعرة الوصل) التي لم تنقطع بين يسار (الفكر الإسلامي) ويمين (الفكر الحداثي) فالبازعي أقرب لعبدالوهاب المسيري في مشروع فكري مرتكز على أن (الآخرين) أغيار، فهل هذه (لعبة اللاوعي) في استبدال (الطهورية الدينية) المفارقة للأغيار، بالطهورية الدنيوية المفارقة للأغيار أيضاً خصوصاً (اليهود)، وسيجد (هذا الطرح) قبولاً في العالم العربي ما دام كتاب (كفاحي/هتلر) يجد قبولاً، وما دامت (بروتوكولات حكماء صهيون) تجد من يصدِّق نسبتها لليهود، وما دام حتى هذه اللحظة يجد (صدام حسين أو القذافي) معجبين.... إلخ من أدواء عربية مزمنة. وللحديث بقية..