كنت أقرأ «رياض الصالحين» وأنا صغير، فقراءته كانت أسهل علي من القرآن الكريم، فالرسم العثماني تاريخي أكثر منه إملائي، فكلمة «الصلوة» وكلمة «الزكوة» وغيرهما بالرسم العثماني كانتا تمثلان عقبة لطفل لم يتجاوز السادسة من العمر، والمعلم لا يرحم، ولهذا كنت أقرأ «رياض الصالحين»، وعندما أدرك والدي عقبة القراءة في المصحف أشار علي بقراءة «تفسير ابن كثير»، فشدتني كثير من الحكايات الواردة فيه، التي لم أكن أدرك الأبعاد التي تتضمنها كثرة (الإسرائيليات) آنذاك لصغر سني.
هل الأمر بهذه السهولة؟ لمحب القراءة وللمنافذ التي تهتم بها أسرتك وهي منافذ دينية في الغالب، فإن مواهبك في قراءة الكتب التراثية تصبح قوية، تكتشف ذلك عندما يفاجئك جيل جديد عائد من دراساته العليا يقرأ بلغتين (عربية، وإنجليزية) في عشرات الكتب الحديثة عربية وأجنبية، ثم يعترف لك بالإرهاق الشديد في قراءة كتب التراث، فتقول له: اقرأ الكتب التراثية السهلة كـ«البيان والتبيين» للجاحظ أو جرب «مقدمة ابن خلدون»، فيفجعك أنه يشكو من صعوبة مفرداتها وتراكيبها، فتكتشف أهمية التنشئة على الكتب التراثية، كي لا تتورط في عقل يقرأ كتب المستشرقين ثم ينقل لنا ما فيها من التماعات (الحضارة العربية) التي عجز عن اكتشافها بنفسه، واحتاج مستشرقاً (كوسيط) لاكتشافها؟!
هل هذا كاف للتكوين الثقافي الجيد؟ لا.... المران والدربة على الكتب التراثية منذ النشأة يجعلك تنفر من بعض الكتب الحديثة، فأحد المترجمين العرب ترجم كتب أحد أشهر المفكرين العرب الكاتبين باللغة الفرنسية، وعندما ترجم كتابه إلى العربية استخدم مصطلحات مثل أيديولوجيا، ابستمولوجيا، أنطولوجيا، فينومينولوجيا، فيلولوجي، ميثولوجي..... الخ ويضع بجوارها الكلمة نفسها بالحروف اللاتينية. وهنا أحكي قبل أكثر من عشرين عاماً، حيث تضطر إلى شراء معجم فلسفي لمراد وهبة مثلاً ثم تزيد معه قاموس أكسفورد، وقاموس المورد عربي إنجليزي، كي تستخدم قلم الرصاص في تعريف كل كلمة وعوالمها (المفاهيمية) مما يجعلك تدرك أحياناً أن بعض هذه المصطلحات هي (علوم مستقلة بذاتها) مما يفتح أمامك ما لم تتوقعه من سياقات فلسفية لم تسع لها بقدر ما سعت بها المعرفة إليك، ولقد بقي من آثارها على خريج كلية الشريعة مثلي، أنه يستخدم هذه الكلمات بين قوسين أثناء كتابته، ليس من باب الاستعراض الثقافي، بل هو في حقيقته ضرورة تداولية للحفاظ عليها داخل فضاء تفكيره، فأنا مثلاً لست محاضراً في الجامعة كي أحافظ على قاموسي الثقافي بالممارسة الشفاهية أمام الطلاب، ومجتمعي لا يتعاطى الأفكار بمثل هذا التفكيك والعمق (والتجريد)، فأضطر أن أضعها في المقال كحد أدنى من الممارسة تحفظ لي فضائي الكتابي بأفق ممتد بدلاً من ذبوله لأن البيئة لا تستوعب مثل هذه المصطلحات، خصوصاً أن الجهد المبذول في فهم كتب فلسفية حديثة قبل عشرين عاماً كان يقتضي الانتقال للمكتبة العامة بسبب التهميشات لبعض الأسماء والأعلام التي تحتاج معها إلى دائرة معارف لا تستطيع شراءها، إن كنت ترغب فهم المكتوب كما يجب.. وللحديث بقية.