في السنوات الأخيرة، وانسجاما مع رؤية السعودية 2030، شهدت المملكة تحولًا جذريًا في مسار تنميتها الاقتصادية، وتحديدًا في قطاع البنية التحتية والمشاريع العملاقة. وقد وضعت القيادة نصب أعينها أهدافًا طموحة تتطلب مستوى جديدًا من التنفيذ في قطاع البناء والتشييد. بين هذه المشاريع، نجد «نيوم»، و»القدية»، و»مشروع البحر الأحمر»، وكلها مشاريع تعتمد على تكنولوجيا متقدمة وتصاميم مبتكرة. هذا التحول الكبير أظهر فجوة واضحة بين ما هو مطلوب وما يمكن لشركات المقاولات المحلية تحقيقه، ما جعل المملكة تلجأ إلى شراكات دولية مع شركات ذات باع طويل في تنفيذ المشاريع الضخمة، وأبرزها الشركات الصينية. الشركات الصينية في قطاع المقاولات ليست حديثة عهد بمشاريع البنية التحتية العملاقة. فهي تمتلك خبرة طويلة في تطوير مشاريع معقدة حول العالم، بدءًا من إفريقيا وصولًا إلى آسيا وأوروبا. هذه الشركات أظهرت قدرتها على العمل بسرعة وبدقة مع استخدام أحدث التقنيات في البناء، مما جعلها شريكا مثاليا لتنفيذ المشاريع الطموحة في السعودية. من بين هذه الشركات شركة تشاينا هاربور الهندسية وشركة سينوهيدرو، اللتين شاركتا في مشاريع متعددة داخل المملكة، وكان لهما دور كبير في تسريع وتيرة تنفيذ مشاريع رؤية 2030. أحد أبرز الأمثلة على هذه الشراكة هو مشروع روشن، الذراع العقارية لصندوق الاستثمارات العامة. روشن تطمح إلى بناء وحدات سكنية متطورة وبنى تحتية حديثة في مختلف أنحاء المملكة. ورغم قوة السوق المحلي، واجهت روشن تحديات في إيجاد شركات محلية قادرة على تنفيذ المشاريع الكبيرة وفق المعايير المطلوبة، خصوصًا مع الحاجة إلى استخدام تقنيات متقدمة، مثل الهياكل مسبقة الصنع والطباعة ثلاثية الأبعاد. وهنا جاء دور الشركات الصينية، التي استطاعت تقديم حلول مبتكرة تُسهم في تسريع وتيرة الإنجاز وتخفيض التكاليف، مع الحفاظ على الجودة العالية. ما يميز الشركات الصينية ليس فقط قدرتها على تنفيذ المشاريع بسرعة، بل أيضًا التزامها باستخدام خبرة متقدمة تسهم في تحسين جودة البناء وتعزيز الاستدامة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لم تتمكن شركات المقاولات المحلية من تلبية هذه المتطلبات الكبيرة؟ في الحقيقة، المشاريع الضخمة مثل «نيوم» و»القدية» ليست مجرد مشاريع بناء تقليدية، بل هي مدن مستقبلية تعتمد على بنى تحتية ذكية ومستدامة، وتقنيات حديثة تتطلب إدارة مشاريع دقيقة ومعرفة عميقة بأساليب البناء المبتكرة. هذه المتطلبات تتجاوز الإمكانيات التقليدية لشركات المقاولات المحلية التي، رغم قوتها في تنفيذ مشاريع أصغر حجماً وأكثر تقليديةً، لم تكن مهيأة للتعامل مع هذا الحجم والتعقيد. ومع ذلك، فإن الاستعانة بالشركات الصينية لم يكن مجرد خيار لحل مشكلة مؤقتة، بل كان جزءا من إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى نقل التكنولوجيا والمعرفة إلى السوق المحلي. هذا التعاون بين المملكة والشركات الصينية يسهم في تمكين الكوادر السعودية الشابة من التعرف على أحدث أساليب البناء والتقنيات المتطورة، ما يعزز من قدرة الشركات المحلية على تنفيذ المشاريع المستقبلية بمفردها. وبهذه الطريقة، يتحقق التكامل بين الخبرات الأجنبية والطموحات المحلية، وهو ما يتماشى مع أهداف الرؤية في تعزيز المحتوى المحلي وتطوير الكفاءات السعودية. مشروع «روشن» ليس سوى نموذج واحد للتعاون المثمر بين السعودية والشركات الصينية. فهناك العديد من المشاريع الكبرى الأخرى التي تعتمد على هذه الشراكة، مثل مشروع البحر الأحمر الذي يهدف إلى إنشاء وجهة سياحية عالمية تعتمد على الاستدامة والتكنولوجيا الذكية. هذا المشروع، الذي يعتبر من أكبر المشاريع السياحية في العالم، يركز على تحقيق معايير عالية من الاستدامة البيئية، والشركات الصينية تلعب دورًا حيويًا في تطوير البنية التحتية اللازمة لتحقيق هذه الأهداف. ورغم النجاح الكبير الذي حققته هذه الشراكة، لا تخلو من التحديات. أحد أبرز التحديات هو التكيف مع البيئة المحلية في السعودية، سواء من حيث المتطلبات التنظيمية أو الثقافية. لكن هذا التحدي ذاته يعتبر فرصة كبيرة لتبادل المعرفة والتعلم المتبادل بين الشركات الصينية والسعودية. فالتعاون بين الجانبين لا يقتصر على تنفيذ المشاريع، بل يشمل أيضًا تطوير القدرات المحلية وتحسين الأداء. في نهاية المطاف، يمكن القول إن الشراكة مع الشركات الصينية ليست مجرد وسيلة لسد الفجوة في قدرات شركات المقاولات المحلية، بل هي جزء من إستراتيجية أوسع تهدف إلى بناء مستقبل مستدام ومتطور للمملكة. الشركات الصينية، بخبرتها الطويلة وتقنياتها المتقدمة، تسهم بشكل كبير في تحقيق أهداف رؤية 2030. وفي الوقت نفسه فإن السعودية تستفيد من هذه الشراكة في تطوير قدراتها المحلية وضمان استمرارية التنمية في قطاع المقاولات والبنية التحتية.
من الواضح أن هذه الشراكة ستستمر وتزدهر في السنوات المقبلة، خصوصًا مع تزايد عدد المشاريع العملاقة التي تعكف المملكة على تنفيذها. وفي ظل هذا التعاون المثمر، سنرى تطورًا ملموسًا في جودة المشاريع وسرعة إنجازها، ما يعزز من مكانة المملكة كوجهة عالمية للاستثمار والتنمية المستدامة.