في محاولة ابن حزم تحديد ماهية الحب وتصوير حقيقته، يبلغ الصراع بين الواقعية والميتافيزية أعلى ذرواته.. ومرد ذلك إلى ما قلناه سابقًا من الصراع بين طبيعته الأدبية ذات المنطلق الواقعي وطبيعته الفلسفية ذات المنطلق الميتافيزي النابع من مفهوم الحب عند قدماء الفلسفة اليونانية.

يبدأ الكلام في ماهية الحب بطريقة أدبية تنزع نزعة رومانطيقية واقعية، حيث يقول: الحب - أعزك الله - أوله هزل وآخره جد.. دقت معانيه عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة..

ولكن، ما إن يمضي قليلًا حتى تعتاده نزعة العصر يومئذ، وهي النزعة الفلسفية المولعة بوضع التعاريف للأشياء والمعاني.. فلا بد - إذن - من أن يضع تعريفًا منطقيًا لماهية الحب.. وهنا تسيطر الفلسفة اليونانية القديمة، فإذا هو يرجع إلى المفهوم الميتافيزيقي عن هذه الفلسفة، القائل إن الحب اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع.. ومن هنا يرجع في تفسير الحب والبغض بين الناس، إلى مدى ما يكون من اتصال أو انفصال بين النفوس في عالمها العلوي.. ولكنه حين يشرح سر الاتصال والانفصال يستند إلى ظاهرة من الظواهر الواقعية الدياليكتيكية في الحياة والطبيعة، وإن لم يكن متنبهًا إلى ذلك قطعًا، إذ يتحدث عن التمازج والتباين في المخلوقات، وتنافر الأضداد وموافقة الأنداد، بل يشير إلى التنازع حتى بين المتشابهات ذاتها.. ومن عجب أنه حين يعود إلى هذه الظاهرة بالذات في باب علامات الحب نرى عنده ملاحظة فكرية دقيقة لعلها عفوية، تشير إلى إدراكه الغامض لقانون رد الفعل المتبادل بين المتناقضات المعبر عنه بوحدة المتناقضات، إذ يذكر من علامات الحب «علامات متضادة» ثم يعقب ذلك بالشرح قائلًا: «والأضداد أنداد، والأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها، ووقفت في انتهاء حدود اختلافها، تشابهت».. «فهذا الثلج إذا أدمن حبسه في اليد فعل فعل النار إلخ...».


وعلى كل حال، نرى ابن حزم في تعريفه للحب على الطريقة الفلسفية، يقول إن الحب يأتي من جهة النفوس في عالمها الروحاني العلوي، لا من الجهة الجسمانية للإنسان، ولكن حين يسترسل بعد ذلك خلال فصول الكتاب (طوق الحمامة)، في أحاديثه الوجدانية وفي عرض تجاربه وتجارب أصحابه؛ نراه وقد ذهل عن تعريفاته وتحليلاته الفلسفية، ووضع قضية الحب في مكانها الإنساني الواقعي المرتبط بالمادة الحية ارتباطه الطبيعي الأصيل..

يؤكد ابن حزم في طوق الحمامة، نظرته الأخلاقية للحب، في حين يعرض تجارب واقعية تناقض المفهوم الأخلاقي المتعفف الذي يؤكد تمسكه به.. وفي رأيي أن لا تناقض في هذا، بل إن توكيده للمفهوم الأخلاقي وإصراره على الرجوع إليه في معظم الأبواب، إنما هو تعبير عن رد الفعل الطبيعي لشيوع الانحلال الاجتماعي الذي يحدثنا عنه بصورة غير مباشرة، حين يسرد الحوادث الواقعية التي تناقض مفهومه الأخلاقي.. ولذلك، يمكن القول إن «طوق الحمامة» يتضمن نقدًا حادًا للأوساط الاجتماعية العليا في عصر ابن حزم، ففي «باب السفير» مثلًا يقدم نماذج صارخة من فضائح القصور يومئذ..

يضاف إلى ذلك أن الكتاب بجملته صورة أدبية حية متكاملة الأجزاء تصف نواحي عدة، فكرية واجتماعية ووجدانية، من حياة المجتمع الأندلسي في ذلك العصر.

يبدو للباحث المتذوق أن عنصر الصدق والصراحة في التعبير عن ذلك المناخ الوجداني المتوتر الذي كتبت الرسالة تحت وطأته، هو أظهر عناصر القيمة الفنية التي تميز طوق الحمامة بوصفه عمل أدبي يعبر عن أعمق ظاهرة إنسانية وجدانية، هي الحب..

وعنصر الصدق - بالأخص - نابع في الرسالة من المعاناة الذاتية، ومن عمق الأثر الذي تركته هذه المعاناة في الحياة الوجدانية الزاخرة بالانفعالات الحادة عند ابن حزم..

وقد ساعده على الاستفادة من هذه الينابيع الذاتية في صنيعه الأدبي هذا، أنـه يملك الأداة التعبيرية بتمكن وثيق.. وأداته التعبيرية هذه متأثرة بطابع شخصيتـه الصريحة، وكذلك بطابع مذهبه الظاهري، الذي يقوم في طبيعته على اعتماد البساطة ومجانبة الالتواء والتعقيد والتمحل، وهذا ما يمكن أن يفسر أسلوبه النثري المرسل المتحرر من قيود الزخارف الشكلية البديعية، مع أصالة في موهبته الأدبية عززتها ثقافة فنية ولغوية مكتنزة راسخة..

والأصل في كل ذلك أن الرجل يملك حسًا جماليًا مرهفًا اكتسبه من نشأته المترفة بين ألوان شتى من الجمال ولا سيما الجمال النسوي في الجواري العديدة تزخر بها قصور أبيه في قرطبة.. وهذه النشأة بقدر ما أرهفت حسه الجمالي وثقفت ذوقه، شحنت حياته العاطفية كذلك بأغزر الطاقات التي تمنح الموهبة الأدبية حيوية وخصوبة وحرارة. فهو يخبرنا في طوق الحمامة ذاته عن معاناته الحب مرارًا، وعن صنوف من الجمال أحبها في هذه الجارية وتلك، وعن وسائل الضغط والمراقبة عليه في أيام صباه وإحاطته بالعيون ترصد سلوكه وتراقب علاقاته بفتيات القصر، حتى أدركته المراهقة في مثل هذا الجو الحافل بالمغريات المثيرات من جهة، والملبد بأسباب الكبت الخانق من جهة ثانية..

ويبدو أن فوران العاطفة مع الحرمان والكبت بحكم التربية المحافظة الشديدة التزمت، قد أوجدا في الرجل حاجة إلى مسرب وجداني، فلما ملك أداته التعبيرية بالثقافة المتينة المتعددة الجوانب، ولما زادته ظروف المحنة ضغطًا روحيًا عنيفًا، كانت هذه الرسالة هي المسرب الوجداني للتعبير عن كل ذاك التراكم الذي بلغ من الزخم حد الانطلاق في شبه ثورة فنية وجدانية لا تزال حتى اليوم شاهد عصرها.

1980*

* باحث وأكاديمي لبناني «1910 - 1987».