وأريد من هذه المفارقة أن تُوصلني إلى مقولة (عيش الحياة بالمقلوب)، وأصلها موجود في مخطوطات عالم النفس السويسري كارل يونغ، والمراد منها أن يعيش الإنسانُ من الموت إلى الحياة، أي أن يتبنّى طريقةَ عيش (لا واعية) حتى عمر محدد، ثم يقضي حياته الباقية في تجميل صورة ما مضى. هذه الظاهرة تحدّثَ عنها كثير من الكتّاب بطُرقٍ عفوية، إلا أنَّ الحديثَ عنها هنا من جانبٍ مختلف وهو أنَّ الكتابةَ قد تأتي لتحسين صورة الماضي، والماضي هنا هو كل ما كان الإنسان يعتقده بالقول والفعل، وسجَّلَه هويةً له، ثم أراد أن يتخلَّصَ منه ولكن فات الأوان، ولا حلَّ لديه إلا أن يُحسِّن من صورةِ الماضي بالكتابة، ولكن أي كتابة؟ وكيف؟
من معاني الكتابة المستقلّة أن تُقاوم ما أسَّسته الذاتُ لنفسِها، وهذا عكس ما تفعله تقاليد الكتابة المعتادة لدى الناس بتأكيدِ ما يعتمل في الذات، أو تأييد أفعالها، كأيديولوجي وجد أنَّ حياتَه -بعد أن انتصفت سفينتُه- لا تصلح لا للنفير ولا للعير، وفاتَ الأوان لكي يحتلّ مكانًا ملائمًا لما كان يرجوه من أدلجته السابقة، فيُصِرّ على أنَّ ما ارتضاه هويةً له في حياته صحيحٌ، ولو بلَوْي عنقِ الواقع، وإقناع الذات أنَّ طريقها هو الحق، فيعيش بحياة مصطنعة، ويحارب طواحين الحياة الأخرى بطرقٍ شتى، فتخرج كلماتُه عفنةً بقدر ما تعفّنت حياتُه. أما الكتابةُ المستقلة فتنهر الذاتَ عن أي هوية ارتضتها، وتُجدد الخطابَ كما تُجدد ملابسَها كُلَّ يوم.
ويحوم حول هذا الحمى الكتابُ الذي ألَّفَه كارل يونغ وأسماه (بين يهوه وأيوب)، وقد كتبه على طريقةِ سمعان اللاهوتي؛ ذلك الذي بحثَ عن الله في كل مكانٍ حتى أشرقَ الإلهُ داخل قلبه؛ وكأنَّ فعل البحث نفسه يجلبُ الشروقَ الذاتي بغضّ النظر عن وجود الشمس. وبيان علاقة يونغ بموضوعنا أنه لم يَكن يُرد أن يُؤلفَ هذا الكتاب؛ لأنه يتضمَّن تأملات ستستفزّ المجتمعَ العلمي الذي ينتمي له، قال يُونغ وهو متلبّس بهذا الشُعور: «إذا كانت الروح موجودة فهي التي تقبض -الآن- عليَّ، وتُجبرني على الكتابة». وما فعله يونغ كان مقاومة مستقلة عن رغبات الذات، وهويتها المستقرة مع مجتمعها، إلا أنَّ هذه الكتابة ستأخذ محلَّها في ذات يونغ؛ أي ستلتقي مع رغبة أخرى في داخل يونغ، وعلامة ذلك أنَّ يونغ قاوم رغبةً ذاتيةً تتفق مع مجتمعه العلمي، لكنه أرضى نفسًا في داخله، وسلَّم لها خِطام القيادة، وهذا الازدواج يُشبه ما يفعله بعضُ الكُتَّابِ في البحثِ عن نَسقٍ فلسفي، يعودون إليه لتفسير الحياة، ولتسويغ طريقةِ عيشهم، فثمةَ ما يقبض على أيديهم ويكتب نيابةً عنهم، ويُفتّش بين الفلسفات عما يُمثّل نسقًا يختبئون خلفه أمام أعاصير الحياة، وكأنَّ هذه الروح وهي تقبض على اليد تخدع الكاتبَ بقول: «أنت متّصِفٌ بصفتين متضادتين وهما (الضعف) من جهةِ الإدراك الكلي للثقافةِ والإبداع المتجاوز لذاتيتك، و(القوة) من جهةِ ما تنطق به»، كآلهةِ أفلاطون التي اختارت -عمدًا- أضعفَ الشُعراء، ليُلهموهم أعظم القصائد؛ كي يكون المجد للآلهة، لا للإنسان. إلا أنَّ تلك الازدواجية التي وقع بها يونغ لا تَمنع كونه يَكتب مِن خلال مقولة (عيش الحياة بالمقلوب)، فهو بهذا الكتاب يمحو هويةً فُرضت عليه، ويُقاوم بالكتابةِ طريقًا (علمويًا)، لكن سيبقى التحدي الأكبر هو أن تستقل عن ذاتك التي صنعتها الحياة؛ لهذا يأتي النموذج الفريد في هذه المقالة، وهو ما قام به الفيلسوفُ النادر نيتشه، وندرته جاءت من عوامل عدة، كانت المقاومةُ الفريدةُ بالكتابةِ واحدة منها، حيث فَكّكَ الأنساقَ التي تنحاز لطريقةِ معيشتِه في عزلته، وكأنَّه لم يَسمح للروحِ -التي اعتقَلت يونغ- أن تستفرد به وتُجبره على كتابةِ ما يُناسب معيشتَها العدميّة، أو يُسوّغ فشلَه أو يُحسّن صورتَه بحسب شهوته، إذ الذي أعاقَ نيتشه عن الكتابة المتدفقة المكتملة هي (الصحة)، فهو قد كان ينوي كتابةَ ثلاثة عشر نصًا، لكنَّ صحته قالت لا، كما ذكر ذلك في إحدى رسائله، وهذا ما جعله يُمجِّد الصحةَ التي تتمظهر في القوة، أي أن تكون قويًا فتُسيطر على الأصواتِ الداخليّة التي تدعوك للاستسلام للضعف وكتابةِ الذات على ما هي عليه، وهذه الأخلاق هي التي ستجعل الكتابةَ مجردَ انعكاسٍ لواقع حياةِ المرض، ولم تكن الفلسفةُ -كما يراها نيتشه- منذ سقراط إلا أعراضًا لمرضٍ عضال، وتأسيسًا لأخلاق العبيد، ونعلم أنَّ سقراط احتقر الكتابةَ؛ لأنها تُفكّك سكرةَ الذات ومقاصدها؛ ومن هنا صرخ نيتشه في لحظة مقاومة مستقلة: أنا شيء وما أكتبه شيء آخر.
التفاتة:
إن أمسك الحزبُ يدَك وكتبَ ما يشاء، فأنت حينها لست إلا صدى لأخلاق العالم.