مما أعترفُ به وأقِرّ أني أخافُ من الطريقِ الطويلِ المستقيم، ذلك الذي يُدخِل الشكَّ فيَّ بأني أسير فعلًا، أو أنَّ ما أراه حقيقيّ!، هذا الطريق يُوتّر الأعصابَ، ويجعلها على صفيح ساخنٍ، وفعلُه هذا كفعل الكابوس في المنام، نتوتّر منه، حتى نستيقظ ونتيقّن من وجودنا وحياتنا الحقيقيّة، وما كان الجاثوم ليطول أمده لو لم نستسلم لعالمه، وكذلك الطريق الطويل المستقيم يُوتّرنا حتى يَحدث شيء لافت يُزيل الشكَ والملل، مثل تجربة السَير من حَرض إلى منفذ البطحاء، الخَطّ الذي يُقَال إنَّه أطول طريقٍ مستقيم!، فهل سِرتَ عليه من أوله إلى آخره - كما تسير الليالي الكئيبة - دون أن يحدث شيء غير السير به؟! ما الذي جرى؟ هل أحسستَ بأنك لا تسير؟!، ربما قالَ أحد السائرين: «سأوقِف السيارةَ جانبًا وأغرس عجلاتها في الرمال، لعلّي حين أُعاني إخراجَها أجددُ الطريق». وإذا كان هذا سفرا حسّيًا، فثمة سفر يتراءى لنا أنه أبعد من الحواس؛ وربما هو أبلغ في الخَوفِ وآكَد، وهذا لابدَّ معه من الانحرافِ حتى يَتجدَّد الخَط في الدماغ المطلق، كما كان يفعل إمام مسجدٍ في الرياض بأسلوبه الفريد في التسعينيات الميلادية؛ حيث كان يُجَدِّد حبَّ الله بتجديد الطريق، وكأنَّه يُلحد عن طريقٍ ليتّصل بآخر.

ولفظة السَفر قد تعني أيضًا تأليفَ الكتابِ (السِفر)، لهذا قد نشعر أنًّ إعادةَ تأويل الكتب المقدسة له وجه من الانحرافِ في السَفر، كما أنّ الكاتبَ حين يُركّب ألفاظه ومعانيه ثم لا يشعر بأنه مفتقر لانعطافةٍ، ففي سفره مشكلة كبرى، يحتاج معها إلى الانغماسِ في رمالِ الكتابةِ والقراءة المختلفة عن محيطِ دماغه المستقيم كاستقامةِ طريق حرض والبطحاء. ولفظ (البطحاء) يعني المسيل الواسع الحاوي دقاق الحصى، وكأنَّنا حين نرى الحصى نُدرك حقيقةَ سيرنا.

والأهم هنا أنَّ هذه اللفظة ذكّرتني - وأنا في الطريق إلى المنفذ - ببطحاء مكّة، فاستحضرتُ قصيدة الفرزدق (هذا الذي تعرف البطحاء وطأته) فتوقفتُ على جنب الطريق؛ لأقرأ القصيدةَ قراءةً جديدة ومختلفة تُجَدِّد دماغي في الطريق، وتُحَسِّسني أني أتقدم نحو الغاية؛ أعني بالغاية منفذ البطحاء ليس أكثر!، واستحضرتُ أنَّ سببَ القصيدة تحاسد نشأ بين هشام بن عبد الملك وابن الحسين، فتساءلتُ: هل الفرزدق قال قصيدته هذه من أجل توثيق لحظة يُكسَر فيها الطريق المستقيم؟ وذلك لأنَّ الحسد - مثل الرذائل كلها - يكسِر حدة الاستقامة، وهذا ما نجده في أسطورةُ ماندفيل عن النحل، وخلاصتها أنَّ خليَّةَ نَحلٍ، ازدهرت بالإنتاجِ، حتَّى قَرر النحلُ قَرارًا مهمًّا في حياةِ الخليّة، وهو أن يَعيشوا بالفضيلةِ، فانهار - بَعد وقتٍ - اقتصادُ الخَليّة، ودبًّ الخِلاف الفكري بين النحل!، وصار بيتُ النحلِ بَسيطًا في شَجرةٍ تكاد تموت من شدةِ العطش؛ فصرخت نحلةٌ: «يا أيها النحلُ، أطلقوا العنانَ لرذائلكم، لا تُخفُوا أنانيّتكم، وشهواتكم، ورغباتِكم في المكاسِب الشخصيّة، وعندها فقط سيزدهر الاقتصاد من جديد». لم يستوعب النحلُ وجود طريق مستقيم؛ لهذا ازدهرت خليتُهم بعد أن جدَّدوا الإنتاجَ بتغيير الطريق! بل ربما كانت هذه الانعطافة النحليّة هي ألذّ عَسلٍ يُمكِن أن يُنتَج، فمزاج النَحلِ بعد أن غيَّروا الطريقَ اختلفَ وتجدَّد، وصار متنوعَ المصدر، وممتلئًا بكل الرغبات، رافضًا النتاجَ المكرر، والطريقَ الممهّد، واجترارَ الغذاء ذاته. والمهم أنَّ ماندفيل في أسطورته النحليّة سعى لإثبات أنَّ الحسدَ ممدوح، وطبيعيٌ كالجوع، لهذا قلتُ إنَّ ثمةَ حسدًا أنشأ قصيدةَ (هذا الذي تعرف البطحاء وطأته)، وهو الذي جعلني أتساءل هل يوجد أحد يُمكِن أن يُقال له: «هذا التّقي النّقي الطاهر العلم!» كما قالها الفرزدقُ قاصدًا ابنَ الحسين، أم أنَّ اختراقَ ابن الحسين الصفوفَ نحو الحجر الأسود كان أسلوبًا يُشبِه أسلوبَ إمام المسجد المذكور آنفا؟ أما أنا فلا أدري.


التفاتة:

ربما أنَّ الناقد ليس إلا ذاك الذي غرس سيارته في الرمال، لأنَّه يعي أنَّ الحقب الزمنية ليست إلا طرقًا طويلة مضنية بلا محطات، ولولا وقود (المنعطفات النقدية) لم يستطع الناسُ العيشَ، والوصولَ إلى غايات في بطون غايات.