تستبطن السينما المعاصرة –والميديا المرئية على وجه العموم- قدرات ضم وإقصاء مهولة، وتنفرد عن بقية الفنون الحديثة بتلك الميزة القاتلة، بل تسبقها بأشواط، ولئن كانت عواقب تعبئة هذه القدرة المخيفة وتوجيهها أقل حساسية وأدنى حضوراً في فضاءات الإنتاج المرئي الترفيهي –بحكم الغائية الترويحية والهدفية الربحية الخالصة- فإن الأمر ليس كذلك بالضرورة حين تشحن الصورة المتحركة بطاقات سياسية، إذ ستتعاظم آنذاك نزعة الطمس والإبراز، وتتولد سريعاً حقول استقطاب وجذب، وتقفز تفضيلات المادة المعروضة إلى إجماع عاطفي كتلو مصطنع، وتميل لبناء وعي زائف مؤقت، متخطية حدود التشظي الطبيعي والانقسام الصحي الذي يفترض أن يحدثه أي عمل فني بين جمهور النظارة وعامة المتلقين.

وأذكر أني قد انسللت من مشاغلي الكثيرة واعتدت متكئاً أو كما يسميها النقاد (زاوية صغيرة) لمشاهدة متأملة فاحصة لفيلم «توم كروز» المعنون «Top Gun» في جزئه الثاني الذي اتفق على تسميته «المنشق Maverick»، الصادر عام 2022، الذي تدور حبكته الرئيسة حول عملية إجهاض جوي لمشروع نووي عدواني، وما تخلل ذلك من صراع جيلي داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية بصدد الاستراتيجية الأمثل لمواجهة هذا التهديد. والفيلم -وإن لم يخلُ من عيوب هوليوود المعتادة- إلا أنه كان بحق تحفة بصرية جاءت عزاءً لملايين الأمريكيين الذين هالهم حينها الانسحاب المريب والمربك لجيوشهم من أفغانستان، فضلاً عن تزامنه مع عشية الغزو الروسي لأوكرانيا، وحاجة الحلفاء الغربيين إلى التماسك المعنوي أمام هذا الخطب الجلل.

وبعيداً عن المضامين الوطنية للفيلم، وإرادته الواضحة في تمجيد قدامى المحاربين (Veterans) وتوجسه من إزاحة التكنولوجيا الفائقة للعنصر البشري، وعلى الرغم من السياق المتوتر والبيئة المضطربة اللتين ولد في كنفهما هذا الفيلم؛ فإني عجزت عن تحديد الهوية النهائية للخصوم، وفي ما إذا كانوا (روساً أو صينيين) جزماً، إذ غيب الفيلم ملامحهم تماماً، تاركاً مساحة التأويل عريضة مفتوحة، واكتفى بالإشارة المبهمة إليهم عبر التلميح بأنماط التسليح ونظم السيطرة التي بدت –أو هكذا أراد لها منتجو الفيلم أن تبدو- أوروبية شرقية مختلطة بعناصر آسيوية فحسب!


إن التعقل، والمعالجة الموضوعية الهادئة لأي قضية جدلية أو حادث عارض هو من لوازم السلام ومقتضيات المودة، وتكون الحاجة إليه أشد وأعظم في ساعات الحلكة والأزمة، فكم من خطاب يتعكز على الكراهية أورث قطيعة ونكداً، وكم من كلمة مغرضة وصورة مسيئة قادت إلى عواقب لا تحمد، وقد هالنا ازدحام مواقع التواصل وفضاءات التدوين والصحافة باللغط الدائر حول فيلم «حياة الماعز»، فكان حقاً على كل منصف أن يدلو بدلوه، وينطق كلمته، خشية أن تروج سردية الباطل فتغدو حقيقة أحادية أيتمها صمت ذوي الحق والعدل.

ولا نرى ابتداءً أن إيمانويل كانط كان ركيكاً يوم وضع مشروطيته الصارمة لقبول الحوادث والمشاهدات عقلاً، ولا اعتداداً بالأقاويل (والدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء)؛ لأن الكلام المرسل مباح مشاع مجاني معفي من الضرائب، فواقعة بحجم الاختطاف، ولأجنبي زائر، ولسنوات طوال، وما تخللها من جرائم استعباد، وتعذيب، وتجويع وقتل، هي واقعة ينبغي لها أن تكون صحيحة بذاتها، لا بغيرها، وأن تملك مقومات ثباتها بنفسها، لا أن تحتج بما هو أوهن، فالراسخ لا يحتاج في رسوخه للهش المتضعضع.

ولكي تكون الواقعة –أو على الأقل معرفتنا بها- مكتملة الأركان لتتلقاها الأذهان بالقبول والتسليم، يلزم وجوباً أن تتوافر على علامات الزمان والمكان المعقولين، يضاف لهما اشتمالها على علامة السببية، لأنه لا يتصور إمكانية وقوع الحوادث بتجريد عن سياقاتها الزمنية والمكانية والسببية، وإلا فلا يصح مبدئياً أن تسمى (حادثة أو واقعة)، بل هي ترهات وأضغاث أحلام ووساوس نفس ليس إلا.

فأما زمان الواقعة المزعومة؛ فمعدوم منقطع، حتى لو حاول أنصار الفيلم الزعم بحدوثها في ثمانينيات القرن العشرين (وهو ما لم يصرح به الفيلم)، وأما المكان المعين فمسكوت عنه، ويحيله الفيلم إلى صحراء شاسعة مفترضة، وأما السبب فغامض خفي، بل مفكك بال، لأن من قواعد مجتمع العبودية (الصناعية، الزراعية، التجارية، الرعوية) إدامة رأس المال البشري (الأقنان والرقيق)، والحرص على تجديد قوة العمل لأفراده، لا استنزافهم وإبادتهم، فكيف إن كان عناصر رأس المال هذا يجيدون صنعتهم، ولا يضاهون بخبرتهم؟ حينها سترتفع قيمتهم، ويعلو شأنهم، ويميل الرأسمالي (الرعوي هنا) إلى إحاطتهم بمزيد من الرعاية والاهتمام لا حباً بهم (في أسوأ الأحوال) بل إدراكاً منه لجدواهم في عملية الإنتاج.

وإنه لمن الغريب ألا يترك الفيلم أي شك في وقوع أحداثه على التراب الوطني للمملكة، ثم يتردد –بل يمتنع البتة- في القطع بزمن الأحداث التقريبي، ومكانها الدقيق، وأسبابها، وكأن تلك المشروطيات التي تحدث عنها كانط، التي تفاداها فيلم «المنشق» هي غير ذات أهمية تذكر لصانعيه، بقدر أهمية اختلاق حدث «مسيء» ما، وزج اسم المملكة فيه، فليس المهم رصانة الحدث المسيء نفسه، ولا مدى مصداقيته، ولا تماسكه السردي، بل الأهم من كل هذا وذاك أن يقترن الاثنان: الحدث المسيء، واسم السعودية!

واستطراداً في التحليل، نتساءل على هامش مغالطات الفيلم المنطقية: لمَ امتنع كفيل (نجيب) الحقيقي عن إبلاغ السلطات باختفاء مكفوله، وكيف انطلت حيلة الانتحال على (نجيب) نفسه وهو القادم للمملكة موعوداً بوظيفة مكتبية (بمعنى أنه يملك درجة علمية ما)، وما منعه أن يصرع كفيله المزيف المسن ويعتق نفسه وهو الشاب المفتول العضل، وأين تلك المراعي النائية حد الهلاك عن تخوم المدن والبلدات، ماذا عن الرعاة الأوائل الذين استدرجهم الكفيل من قبل وتركهم عرضة للموت ومخالب النسور، كيف مرت كل تلك الفظائع، أين التواصل الدبلوماسي للوقوف على مصائر الرعايا المختفين؟ أسئلة لا تنفك تولد نفسها، وتجلو شيئاً من غبش الفرية التي صارت مادة يتفكه بها قطعان من الذباب الإلكتروني الذي لا يزدحم ويعلو طنينه إلا على السفاسف والدنس وسقط المتاع.

ومن اعتمر بيتاً من زجاج فيحسن به اجتناب الرجم بالحجر، ولو قيض للمملكة أن تكلف مؤسستها الإعلامية بإنتاج فيلم مضاد لأعيا خصومها الرد، ولتكلفوا ما لا يطيقون، لا سيما في معرض دفاعهم عن مواقف دولة ظهرت إثر انفصال جراحي سيامي دموي مرعب، وحاضر ينخر بملايين العيوب الدينية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ليس أقلها استشراء الطبقية المؤسسية، وتبني خطاب الكراهية الرسمية، ومظالم لا تحصى بحق الأقليات الهامشية، وعدوانية وتآمر بلا حدود، واغتصاب لأراضي الغير، واحتضان التيارات اليمينية المتطرفة. ونطمئن الناعقين الذين ما خاب ظننا السيئ بهم أنهم لن يقبضوا بنسية واحدة (جزء من مائة من الروبية) من عوائد هذا الفيلم، لأننا نعلم جميعاً طبيعة شبكات التخادم التي تقف وراءه، ومهما تبجح منتجوه أنهم يقصدون به إنصاف جوعى القارة ومضطهديها، وقد قيل: (سلمت لو أن السهم سهم مقاتل.. ولكن ما أصماك سهم مخاتل).

ويبقى –بعد كل هذا وذاك- شيء من الحزن الشفيف في النفس، حزن مرده أننا نكتشف –مرة تلو أخرى- أن أعداءنا وحاسدينا لا يدخرون وسعاً ولا جهداً في سبيل الإساءة لنا، والكيد بنمط حياتنا وبنية نظامنا الاجتماعي، وهم طراً من جاحدي الأفضال ومنكري الإحسان، أو ممن اسودت قلوبهم حقداً ومقتاً أو حسداً وبغضاً، فتراهم لا يتوقفون في النبأ وإن نقله فاسق رعديد أو منافق عنيد، يحتضنون ما هب ودب من المقولات والأباطيل، ولا يثنيهم عن ذلك خلق ولا فضيلة، ولا يردعهم دين ولا شريعة، ولولا حفظ الله تعالى، وتسديده لقيادة جزيرة نبيه، ومن ثم تلك اللوائح والتعليمات الناظمة لشؤون الرعايا والمقيمين، لغرقت المملكة في الأدران والأمراض التي أصابت بعض جيرانها ممن هم على مرمى حجر منها باللظى والشرر وسوء المنقلب، «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».

* عضو هيئة تدريس كلية العلوم السياسية بجامعة الموصل