«لماذا نتنكّر لِمَا يُمتِعنا؟» حضر هذا السؤال وأنا أستمتع بعملٍ درامي سوري خفيف لطيف، أُنتِج هذه السنة، ولم يلتزم بمعايير الجودة في عُرفِ (رجال الجبس)، ورجال الجبس لمن لا يَعرفهم هم الذين حوّلوا فقاعةَ صابونٍ إلى جبسٍ -بفعلِ إرادةٍ كالخرسانة- وسموها (الجودة الأدبية)، تقليدًا للجودة العلمية!

وأزعم أنَّ التخلي عن هذا التنكّر سيُدخل صاحبَه في صُلحٍ لذيذ مع إبداعٍ يتوارى عن أنظاره الجُبسيّة! والسؤال: ماذا سيبقى للمتفلسف حين تُلغى جودة (رجال الجبس) المعياريّة؟ أزعم أنَّ مما سيبقى عقله المتوقد الذي يصنع الإبداع بربطِ شيءٍ بشيء لا يظهر بينهما رابط، ومن هذه الأشياء الباقية التنظير الذاتي لخفايا المتعة، وهذا ما جعلني أحدسُ أنَّ متعتي بهذا العمل الدرامي اللطيف متعلقة بحركةٍ تاريخيّة انجذبتُ إليها، كلما تكررت هذه الحركة في أي عملٍ لاقت المتعةَ ذاتها.

وقد جَرّبتُ أن أعودَ إلى أعمالٍ قديمةٍ جدًا في الدراما السورية تابعتُها في زمنٍ بعيد، وتعمدتُّ أن اختارها من أزمان متباعدة نسبيًا، فشعرتُ أنَّ ثمة متعةً تتجدَّد بمتابعتها، وتتشابه بنوعيتها، وكأنَّها تشترك في إطارٍ دراميٍّ واحد متأسّس على عَقدٍ خفيّ، لهذا وضعتُ -افتراضًا- أنَّ الدراما إما أن تكون بعقلٍ ذاتيّ كلي يُفكّر بنفسِه كاقتصاد، أو أنَّها متجزئة بحسب إرادة المنتجين المرتبطين باقتصادٍ منفتح، ففي الأول ستكون الأعمال الدرامية -مهما تنوعت- استجابةً للعقلِ الكلي، وفي الثاني ستكون استجابةً لهوى السوق الاقتصادي وذوق أفراده المالي، ثم بعد هذا الافتراض ظهر لي أنَّ تجربةَ المتابعة الدقيقة للأعمال السورية، تضعني في سياقٍ دراميّ خاص، واقعيتُه ليست انعكاسًا للمجتمع، بل هي فتح نوافذ ممكنة من واقعِ الحياةِ. وفي طيّات هذا الافتراض، يكون العقل الكلي بمقام الحركة التاريخية التي تنجذب لها النفس، وذلك يعني أنَّ العقل الكلي هو عقول متعددة بحسب الأفراد ومتعهم.


وفي ظلّ هذا السياق أتوقف عند عملين يظهر أنَّهما متشابهان، هما (حَمّام الهنا) عام 1967، و(صَحّ النوم) عام 1972، إلا أنَّ الأخير اتضحت فيه بداية تشكّل العقل الكلي، وربما يعود ذلك إلى كون الدراما التلفزيونية السورية عانت في الستينيات الميلادية من سَطوةِ العقليةِ الإذاعية والمسرحية في الصنعة، وبقايا الاجتهادات التجارية في الإنتاج، حتى تخلّصت منها في مطلع السبعينيات.

صح النوم عمل تقع أحداثه في فندق تملكه (امرأة)، يقع في حارةٍ شعبية اسمها (كل من إيده إله)، ومن يُتابع العمل سيرى أنَّ حسني البورظان صحفي يريد أن يُكمل مقالة بدأها بقول: «إذا أردنا أن نعرف ماذا في البرازيل، فلا بدَّ أن نعرف ماذا في إيطاليا»، لكنَّ غوار الطوشة يمنعه بمكره وحيله، والملاحظ أنَّ هذه المقولة (البورظانيّة) هي مقالة متكاملة بذاتها، لها بداية ونهاية، ولا تحتاج إلى إكمال، فهي تَشرح نفسها، وتفتح نافذةً مستقبليّة، وتفكِّك أزمةَ الحاضر، لهذا تستوقفني أنَّ هذه المقولة -التي سارت مسير الشمس- هي في عمل فكاهي خفيف، وُلِد في مطلع السبعينيات الميلادية في بداية نمو رأسمالية الدولة في سوريا، ومن هنا أظنُّ أنَّ مما تُنتجه مقولة حسني البورظان أنَّ الحياةَ حين تضع نظامها الاقتصادي والاجتماعي من أطر وضوابط يعيش في أفقها الناس، فإنَّ هذا النظام نفسه يفتح ثقوبًا في الجدران، ليرى شيئًا مختلفًا؛ إذ بهذا النظام المغلق تعولم حسني البورظان. وربما هذا ما يجعل مرحلة ترقّي الدراما السورية تختلف عن مِصرية (السادات) وما بعدها، المرتبطة بالانفتاح الاقتصادي العام.

ثم إنَّ مقولة حسني البورظان لا بد أن تنقلنا إلى ممثلٍ آخر هو (فارس الحلو) الذي يُشبه (نهاد قلعي) شكلًا ومضمونًا، وقد مثّل فارس دور إسماعيل كمخه في (أحلام أبو الهنا)، مع دريد لحام، وكأنَّه حلَّ محل نهاد قلعي بعد وفاته عام 1993، لكن إسماعيل أخذ دور حسني بالمقلوب، وما يهم المقالة هنا أنَّ فارس الحلو خَرجَ في لقاءٍ ليحكي حكاية غريبة، كأنَّها من مقالبِ غوار على حسني، يقول: «ابتداءً من الجزءِ الثالث في بقعةِ ضوء، صارت الرقابةُ مشددة، فدخلتُ ذاتَ يومٍ إلى الشَركة المنتجة لأجد على الطاولةِ ظرفين -جاءا من الرقابة- كُتِبَ على الأول: (مع الموافقة) وعلى الثاني: (لإعادة النظر والتعديل)، فأخرجتُ ما في الظرفِ الأول لأضعه في الثاني، وما في الثاني وضعتُه في الأول» ثم يُعقّب فارس: «بهذه البساطة»!. هذا الفعل -البسيط في صورته، المعقّد في مضمونه- دراميٌّ بامتياز، وهو يفتح نافذةً على مقولة البورظان لتكون: «إذا أردنا أن نعرف ماذا يجري في الواقع الرقابي فلا بدَّ أن نعرف ماذا يجري في الواقع الدرامي»، هذا الواقع الذي يُركِّز على الممكنات في حياةِ الدولة نفسها، وليس على ما يَنعكس منها ثم إليها؛ ففي مشهد واقعي كوميديّ صُوِّرت الأعمال الممنوعة، ومُنِعت الأعمال المسموحة. ونلحظ في الوقت نفسه أنَّ السلطةَ لم تُعاقِب فارس على فعله، مما يُشير إلى المساحةِ التي تخلقها الدراما لنفسِها مع أنها مُراقَبة، فثمة علاقة بين سلطة (مكونات الدولة) والدراما، تُشبه علاقة زوجَيْن (متحابين) لكنهما يُريدان الطلاق لأسباب معقّدة، وكلما امتدَّ الخلافُ بينهما في المحاكم فُتِحَت نوافذُ جديدة. وحكاية فارس الحلو تُشبه ما فعله الكاتبُ السوري سامر رضوان في عملٍ أظنّه (الولادة من الخاصرة)، حين أرسلَ العملَ إلى الرقابةِ وأخذ أوامرهم فيما يُحذَف، لكنَّ العملَ صُوِّرَ دون تنفيذ أغلب الأوامر، استنادًا إلى ورقة (الموافقة العامة)، ومع ما يُعرف ويُقال عن قسوة المعاقبة هناك، إلا أنَّ الأمر مَرّ بسلام، ليس لأنَّ السلطة لا تنتقم، بل لأنَّ الدراما السورية متناغمة في نوتة موسيقية معها، ومهمتُها (اللاواعية) فتح مظاريف الممكنات من عمق النظام الاقتصادي والاجتماعي.