«إذا طلبتَ الثمر فأنت مستثمر، وإذا أمسكتَ بالثمر فأنت ثري». هذه جملة لغوية مستقلة، لا يلزم منها التعبير عن عالم المال كما هو؛ لأنَّ عالم الكتابة مستقل وقادر على خلق ما ليس موجودًا رأي العين، لكنَّه في الوقت نفسه يؤثر ويتأثر بالعالم المرئي. فالذي يطلب الثمر (المستثمر) يُريد أن يتخلّص من القيد بالقيد نفسه، أي أن يصل إلى حريةٍ مالية بعبوديةٍ مالية، والحرية المالية المقصودة هنا أن يكون للإنسان دخل مالي يكفي حوائجه ومتعَه دون أن يعمل. وهذا الأمر يقذف بنا في أتون متاهات قولٍ لغوي للخليل بن أحمد الفراهيدي، عصارته أنك لن تصل إلى ما تحتاج إليه في علم النحو إلا بتعلم مالا تحتاجه منه، وهو بهذا القول يُخاطِب مستثمرين خاصين، وهم الذين يبحثون عن حرية منطقية وتفكير مستقل عن ضوضاء الناس وحاجتهم الدائمة لمن يُفسّر لهم الأسفار الكبرى، وما دمنا لن نصل إلى الثمرة إلا بدخول الحقل نفسه، فإنَّ ذلك يجعل مالا نحتاج إليه هو في مقام ما نحتاج إليه. إذن الوصول إلى الحرية المالية لا يكون إلا بالعبودية المالية، ومادام الأمر كذلك فستكون العبودية الفعليّة حرية بالقوة، ويمكن أن نستحضر هنا قولَ المتنبي: «لابد دون الشهد من إبر النحل»، والشَهد في سياقنا هو الحرية المالية، وهذا ما يُفرق بين شَهد وشهد، بين من ولد وفي فمه ملعقة من ذهب ومَن ولد على حصير من لهب، فالأول ولد والثمرة في فمه مباشرة لكنَّ أباه أو جدَّه قد مرّا بالعبودية المالية، وهذا ما يجعل شهد الابن مزيفا، أما الآخر فهو مستعبد يسعى للحرية المالية بالاستثمار، لهذا سيلعق (الصَبِر) حتى يتحرر. والصَبر عصارة شجر مرة، وهذا الفرق دقيق، ويمكن أن أبيّنه عن طريقِ المثل اللطيف المتداول على ألسنة الشاميين: «بدّك العنب أو تقاتل الناطور» هذا المثل يُقال على سبيل أنَّ الشخص قادر على تجاوز الناطور وأخذ الثمرة، وهو في الوقت نفسه يفترض أنه لابد أن يمرَّ به فإما أن يكون راضيًا فيدخل، أو مانعًا فيتحايل عليه دون قتاله، إلا أنَّ الناطور ليس طريقًا ضروريًا، فهو قد يغيب، أما الطريق إلى الثمر فلا يغيب أبدًا. وشهد مَن ولِد وفي فمه ملعقة من ذهب كمثل الناطور، أما شهد من ولد على حصير من لهب فكالطريقِ أصيل وحقيقي. وبما أنَّ الحريةَ المالية تلتقي مع الحرية الفكرية كما ذكرتُ، فإنَّ الإنسانَ في قراءته للأحداث -التي تُخبرنا بها التقنية- لن يخرج من طريقين: الأول أن (يستثمر) الإمكانات الكامنة في اللغة انطلاقًا من النصوص التي تدلنا على الوقائع، وعلى أنَّ الحقيقةَ متدثرة في جلباب الجميع، والآخر: أن (يستخدم) المعلومات والنظريات كعقائد، وسواء أخذ اللعبة (الميديائية) في عين الاعتبار، أم لا. كمثل حادثة أذن ترمب، التي وصلت إلينا عن طريقِ النصوص (وسائط)، والنص هو ما ارتفع وانتصب، أي لَمَّا نقول هذه نصوص الأدب فالمراد ما رُفع منها ونُصبَ لتراه العين، وما يجري في قراءة الحدث الترمبي ليس إلا نقليات (وسائط)، والاختلاف بين القراء كان حول (استثمار) اللغة؛ ليصل الإنسان من عبودية الرأي العام إلى رأي خاصٍ بمثابة الحرية المالية والفكرية، أو (استخدام) المعلومات والنظريات السياسية والاقتصادية التي تحولت إلى عقائد تحليلية، وأصحاب هذا المسار الثاني سيظلون عبيدًا لهذه العقائد التي يصلون بها إلى الرأي، وليس موجودا في مستقبلهم مفهوم الحرية الفكرية، وسيكون أيضًا ليس في عرفهم الحرية المالية، مع أنهم قد يستثمرون في السوق، وربما السبب لأنَّ الحاجات التي يعيشون بها تكبر مع تضخم العبودية المالية، فكيف للحمار أن يُدرك الجزرة وهي معلقة بطرف عصا ممتد أمام رأسه؟! أو بقولٍ آخر: حاجاتهم لا تُدرك مكانًا خارج السوق الاقتصادي. ويترتّب على المسارِ الأول إكثار الدلالات المحتملة في الحدثِ الواحد، وتكثيف المعاني دون تعارض بينها، أو تعارض يخلق رأيًا جديدًا مختطفًا من الصورة أو الحدث نفسه؛ فأصحاب هذا المسار ينظرون إلى المشهد الترمبي -مثلا- على أنه نص يقف خلفه تعدد ثري، كله حقائق موجودة في الحدث، وحتى لو خرج أحد الفاعلين معلنًا مقاصده فهذا لا ينفي الثراء؛ إذ خلف المقاصد تقبع الحرية، أو يجلس التعدد المثير، وخلف الفاعل فاعل، وخلف هذا الأخير مقاصد لآخرين وهكذا بشبكة تتجاوز النظر المؤطر والمباشر حتى من قِبل الفاعلين أنفسهم، وهذا ما جعل بعض المشتغلين في الفلسفة يُخرج التفاعلَ النصّي منها، بالهروب من هذا الثراء ليرتاح رأسُه من وعثاء الإبداع الذي لا يفهمه، ويكتفي بمقاصد المؤلف على أنها الغاية في الإنجاز الأدبي، وهذا فهم سقيم لثراء (موت الكاتب)، ولم يأتِه هذا الفهم السقيم إلا من كونه يَفصِل فصلًا (مدرسيًا) بين الفلسفة والنقد وتاريخ النص، وتداخل العلوم الإنسانية. وأما المسار الآخر فينطلق من مسلمات كأحداث تاريخية سابقة يراها بالضرورة مُفسّرة لأي تصرف جديد، أو تكون المسلمات نظريات تاريخية، يتمرّغ في طينها المحللُ السياسي حتى يتّسخ ويتخبط ويتجاوزه الزمن، ثم تتغير الأحداث وهو مازال يُفكّر كأنه (طنجرة تبحث عن غطاها).
التفاتة:سمعتُ ذات مساءٍ صوتي من عبد السلام بن عبد العالي أنَّ اللغات العربية والإغريقية واللاتينية والجرمانية تعقد الصوتَ بالضمير وتربط السمع بالطاعة، والأذن بالرضوخ، تقول: (صوت الضمير)، أما العين فللعقل تقول (عين العقل). ثم رأيتُ فيما يرى النائم أنَّ الحدث الترمبي - محاولة الاغتيال- لعب بـ (العين) ليعيدها لمسار (الأذن)؛ إلا أنَّ الزمنَ تجاوز التأطير والمفاهيم المسبقة، وبقيت اللغة تلعب بالجميع.