جواب سؤال الأصل يحدد أفق نظر النص ومفسريه حول الغاية من اقتصاد المجتمع، وما يكمن وراءه، وسنلحظ -ابتداء- أن اقتران الرهان المقبوضة بالسفر يجعلها خارج الاقتصاد الاجتماعي؛ أي ما دام المتراهنان بين أسوار المدينة فلا حاجة للقبض، وهذا يعني أن الرهان يعتمد على الإيمان المتبادل بين أفراد المجتمع على شيء يعود على اقتصادهم بالنفع، وهذا الإيمان مفقود في السفر فاحتاج إلى قبض، كي لا يجحد الحق. ويمكن مد هذا المعنى إلى العلاقة بين البنك وأفراد المجتمع، وكأن البنوك حلت محل السفر، فلا إيمان حقيقيًا بينهما على الرهن غير المقبوضة. والسؤال: هل إذا نزعت الثقة بين المتراهنين يفقد الإيمان الاجتماعي بتقادم الزمن؟ هذا ما يقوله التاريخ بطرف خفي، ومن هنا يمكن فهم أصل كلمة الرهن في التداول العربي القديم وهو «الدوام والاستمرار»، أي إذا قالت العرب: «رهنت لزيد الطعام» فيعني جعلته له دائمًا، لكن لما نزع من الرهن فتيل الديمومة والاستمرار صار «حبسًا مؤقتًا» أي أن يحبس مال عيني لدى المرتهن ليستوفي حقه من الراهن، وهذا التأويل يرجعني لمرادي وهو عقد الصلة بين الرهان والرهن، ثم استخلاص نتيجة من افتراقهما تتعلق بالنظر للحياة ومكنوناتها وما بعدها، لهذا لم أقتنع بمن يجعل مراهنة العربي أبي العلاء المعري: «قال المنجم والطبيب كلاهما/ لا تحشر الأجساد قلت إليكما. إن صح قولكما فلست بخاسر/ أو صح قولي فالخسار عليكما» كمثل مراهنة الفرنسي باسكال التي تقول: «إذا كنا لا نعرف أن الخالق موجود أو لا، فالعاقل من يراهن على وجوده»؛ إذ مراهنة المعري تنتمي إلى إيمان مشترك بالحياة ومعناها وبما بعدها في آن واحد، فالمعري يقول: «لست بخاسر»، مع أن ترك المتع الدنيوية في مقابل الفوز بالجنة تعد «خسارة» في النوع الثاني الذي ينتمي له باسكال وهو تاريخ الإيمان الفردي المنبت الصلة بالحياة المشتركة بين الدنيا والآخرة، لهذا يدرك باسكال أن ترك المتع الدنيوية هي خسائر، إلا أنه حين يوازن بينها وبين الأرباح سيجد الكفة ترجح بالإيمان؛ مما يجعلنا أمام مستشار اقتصادي استخدم وعيه التاريخي الأوروبي ليصنع مراهنة للآخرة، بل إن باسكال يقول إذا تصنعت الإيمان السلوكي بالذهاب إلى أماكن العبادة ونحوها سيولد في داخلك إيمان حقيقي، وهذا المبدأ نجده في المنتج الغربي «علم النفس السلوكي»، أما المعري فلأن اقتصاده عربي صارت مراهنته عربية، والمراهنتان توضحان كيف ينظر كل منهما إلى «الخالق»، فالمعري يراهن منكرين للحشر يتفقان معه على طبيعة الحياة الدنيا والشعور الجمعي؛ أما باسكال فيخاطب الوعي المتغير في تاريخ أوروبا والنظرة الديكارتية الحديثة للخالق وما يعارضها. إذن إذا خاطبت شخصًا يمثل وجهة نظر دخلت إلى مجال ما، فإن القواعد المشتركة تتوالد مما تفجره لغتهما المشتركة في النظر للأشياء؛ فاللذان يراهنهما المعري هما من الدهريين القائلين: «ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر»، استخدموا لفظ «الدنيا» مع أنه يحمل نقيضه «العليا»، واستخدموا لفظ «الحياة» بعد «الموت»؛ ويطرح المعري في القصيدة نفسها أمام الاثنين ثنائية التقوى والشر، ثم يسألهما: «أيهما أبر لديكما»؟ كل هذه الألفاظ والتساؤلات تمثل قواعد مشتركة للشعور العميق لمعنى المراهنة المولود في مجال اللغة العربية، وهذا ما يجعله مختلفًا عن مراهنة باسكال.