لا توافق بين واشنطن وإسرائيل على شروط الهدنة وتبادل الرهائن والأسرى. لا توافق على خطط ما بعد انتهاء القتال في قطاع غزّة. لا توافق على التعامل مع السلطة الفلسطينية بالنسبة للمرحلة المقبلة سواء في الضفة الغربية أو في غزّة. لا توافق على القوّة الأمنية الدولية- العربية ومهماتها في القطاع، أو على مسار ذي مصداقية نحو الدولة الفلسطينية. واستطراداً لا توافق على حرب واسعة أو منضبطة في جنوب لبنان. وأخيراً لا توافق حجم الحرب التي تعتزمها إسرائيل ضد "حزب إيران/ حزب الله"، وواقعياً ضد إيران. وفي المقابل لا تفاهم بين واشنطن وطهران أولاً على مصالح الأخيرة في المنطقة، وتالياً على الصيغة التي تبقي "حماس" سياسياً وتجرّدها من قوّتها عسكرياً، ولا على الاعتراف بالدور المتفلّت الذي يمارسه "حزب إيران" اللبناني بالهيمنة على الدولة ومؤسساتها وبالاستقواء على سائر مكوّنات المجتمع اللبناني...

على رغم كل هذه الاختلافات يتمترس الخط الرئيسي للسياسة الأميركية في خانة الدعم اللامحدود لإسرائيل بداعي "أمنها" و"انقاذها من الخطر الوجودي" الذي يهددها. ليس لأي جهة عربية أن تتوقع مكسباً ولو سياسياً- معنوياً من أي تأزّم في العلاقة بين البيت الأبيض وحكومة المتطرّفين في إسرائيل، لكن واشنطن تنتظر من الجانب العربي "تعاوناً" في اخراج إسرائيل من ورطتها الشاملة (الاستراتيجية- العسكرية- القانونية- الأخلاقية...) في غزّة، بل تنتظر أيضاً تغاضياً عربياً عن الوحشية الإسرائيلية المستمرّة.

وفي التركيز على غزّة، ثم لبنان، يجري التغافل عما يحدث في الضفة، حيث تتفاقم المخاطر جرّاء خطط بتسلئيل سموتريتش لتوسيع الاستيطان والشروع في ترحيل الفلسطينيين، بالإضافة الى خطط ايتمار بن غفير التي حوّلت المستوطنين الى ميليشيات مسلّحة تشن هجماتها على القرى والبلدات الفلسطينية متمتّعة بحماية الشرطة والجيش، مع تحييد وتهميش كاملَين ومستغربَين للشرطة الفلسطينية التي أُنشئت ودُرّبت وسُلّحت بإشراف أميركي ولا يُسمح لها بحماية مواطنيها من وحشية المستوطنين.

في نهاية المطاف، شهد العالم كيف أن الإدارة المشتركة للحرب على غزّة لم تتح للولايات المتحدة منع "الأخطاء" التي تحدث عنها جو بايدن باكراُ أو تطبيق ما ادّعاه متأخراً من رغبة في "حماية المدنيين" الفلسطينيين، كما أنها لم تمنع الجانب الإسرائيلي من تنفيذ ما أراده من بيت حانون وبيت لاهيا شمالاً الى رفح جنوباً، بما في ذلك عدم احترام روح الاتفاقات واعتبارات الجوار مع مصر. بل ان العالم شهد ما هو أكثر من ذلك، ففيما كان الحلفاء الغربيون- حتى هؤلاء- يعجبون من انعدام ضوابط التسليح الأميركي لإسرائيل، إذا ببنيامين نتانياهو يسرّب شريطاً مسجلاً يشكو فيه من تأخير شحنات الأسلحة ومن انعكاسه سلباً على عمليات الجيش.

هذه المرّة الوحيدة التي اضطرّ فيها ناطقو الإدارة الأميركية حتى الأكثر انحيازاً لإسرائيل، أمثال جون كيربي، لتكذيب نتانياهو قبل أن يكشفوا أن الأمر يتعلّق بشحنة قنابل ثقيلة (زنة الواحدة ألفا رطل). لم يكن نتانياهو يكذب فحسب بل كان يتباكى بأن ثمة جدراناً وأبنية لا تزال قائمة في غزّة ويجب أن تسوّى بالأرض. الواقع أنه كان يمهّد للمناظرة بين بايدن ودونالد ترامب، وفيها دافع بايدن عن دعمه غير المسبوق لإسرائيل، لكن خصمه ترامب ردّ عليه بأنه يجب تمكينها من "انجاز المهمّة"، قبل أن يدفع بعنصريته الى أقصاها فيصف بايدن بـ "الفلسطيني" بل "الفلسطيني الضعيف" بهدف تحقيره.

وُضعت محادثات وزيري الدفاع الأميركي والإسرائيلي في إطار "التصالح" بين الطرفين/ الحليفين، لكن يوآف غالانت قال للويد أوستن في الغرفة المغلقة ما قاله رئيس وزرائه علناً ثم كرّره وأصرّ عليه. فالاثنان يريدان الأسلحة ويستغربان كيف أن الحليف الأميركي يبدي الآن هذا الحرص على المدنيين بعدما تغاضى عن تدمير سبعين في المئة من قطاع غزّة وعن افتعال مجاعة بين سكانه وعن مئات المجازر التي حصدت ألوف الضحايا من الأطفال والنساء. في السياق أوحى غالانت بأن في جعبته خطة لـ "اليوم التالي" لطالما طالبت بها واشنطن، مستنداً الى أن الجيش لا يريد أن يبقى أسير الجدل التفاوضي حول الوقف الموقّت لإطلاق النار، بل يريد انهاء عملية رفح وإعلان "هزيمة حماس" لحسم الجدل الداخلي حول مسألة "النصر" الصعب، لكن كيف سينهيها، وما مصير الرهائن في هذه الحال. ماذا في الخطة؟ أفكارٌ سبق أن طرحها نتانياهو مع شيء من التنقيح: إبقاء القطاع مقسّماً بين شمال محور نتساريم وجنوبه، إبقاء الاحتلال في محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، إبقاء فرقتين عسكريتين للعمليات المستهدفة، انشاء سلطة فلسطينية محلية "غير معادية"، قيادة أمنية أميركية- أوروبية- عربية (من دول معتدلة). أي أن الكلّ يجب أن يساهم في بقاء قوات الاحتلال في غزة بأقلّ عديد وتكاليف، لتمكينها من نقل ثقلها شمالاً لإشعال حرب واسعة ضد لبنان.

تتوقّع إسرائيل من جميع الأطراف أن تتجنّد الآن لدعم حربها على إيران، فهي تدعو الى تجاوز غزّة لوضع هجومها المزمع على لبنان في إطار المواجهة مع إيران. فمن واشنطن بدأ غالانت يغيّر الوجهة، إذ قال إن "إيران أكبر خطر على العالم مستقبلاً"، سائلاً الإدارة الأميركية متى ستنفذ التزامها منع إيران من امتلاك أسلحة نووية لأن "الوقت ينفد". وتبعه رئيسه نتانياهو محذّراً وفوداً أميركية سياسية وعسكرية من أن إيران "تسعى الى غزو الأردن والسعودية، وإلى اطاحة أنظمة في الشرق الأوسط، والخطوة الأولى لوقف خطتها هي هزيمة حماس". وفي مضاعفة تسليط الضوء على إيران ترمي إسرائيل أولاً الى إضفاء "شرعية دولية" على حربها ضد لبنان، وثانياً الى تعزيز اطروحاتها بالنسبة الى غزّة واستدامة احتلالها والتحكّم بمستقبل سكانها، وثالثاً الى زيادة الإجراءات الأمنية في الضفة بحجة "حماس" أيضاً للتغطية على سياساتها الاستيطانية وخططها لتهجير السكان.

في المقابل، هناك نوع من الاستجابة الإيرانية للتحريض الإسرائيلي. فبعدما اعتبرت أن الأجواء المثارة ضد لبنان "حرب نفسية"، هددت بعثة إيران في الأمم المتحدة بأن حرباً على لبنان ستكون مدمّرة، وتعني طرح كل الخيارات "بما فيها المشاركة الكاملة لمحور المقاومة" ، بل تعني أن "حرب إبادة ستندلع". ومنذ فترة بدأت البعثة تتولّى، بشخص رئيسها في نيويورك سعيد ايرواني، جانباً من الاتصالات غير المباشرة مع واشنطن عبر مجلس العلاقات الخارجية.

* ينشر بالتزامن مع موقع "النهار العربي"