ولهذا فالاتكاء على التأويل القسري لآية (حفظ الذكر) لتشمل كل اللغة العربية بما فيها من لغو ولهو وشقشقة واشتقاق يشير إلى غفلة عن الفرق بين تاريخ (علوم القرآن) وتاريخ (علوم اللغة) مما يعيدنا إلى سؤالنا الرئيس: هل يمكن أن تنقرض اللغة العربية؟ نعم، فمليار ونصف مسلم ثلثهم تقريباً مقسومون ما بين من يتحدثها كلغة أم، ومن يتحدثها كلغة ثانية، وبقية المليار يرددونها تعبداً كما تردد بعض الكنائس أمام جمهورها بعض تراتيلها باللاتينية القديمة ويستمعون لها خاشعين (تعبداً) دون أن يفهمها كثير من الحضور، وهذا بقي عالقاً في ذهني عندما صليت الجمعة في أحد أكبر مساجد شرق آسيا قبل سنوات، وكانت المفارقة اللغوية أني لا أفهم من خطبة خطيب الجمعة إلا تطعيماته لها ببعض الآيات القرآنية، ثم فهمته أكثر مع بداية تكبيره في الصلاة حتى انتهائها، ثم تحدثت مع المجاورين لي لأنهم كانوا يسلمون على بعضهم بقول: (السلام عليكم...) متوهماً إتقان بعضهم للغة العربية، فكانوا يهزون رؤوسهم عند حديثي مجاملةً، فأدركت أني (أعجمي) في لغتهم، ولا يعرفون العربية إلا (تعبداً).
أعيد السؤال مرة أخرى: هل يمكن أن تنقرض اللغة العربية؟ نعم فاللغة كائن حي ينمو بكثرة التداول (داخل الحضارة الإنسانية الحديثة) وتضعف وتصاب بالهزال إذا كان مجالها التداولي فلكلورياً (خارج الحضارة الإنسانية الحديثة) فعندما كانت اللغة العربية في العصر العباسي في قوتها ابتلعت مفردات من خارجها بقوة وأنتجت مفرداتها الحضارية بقوة أيضاً، أي إنها كائن حي يحمل أهليته الحضارية في (الأخذ والعطاء في التبادل اللغوي دون حرج) (هل لنا أن نسخر فنقول: إن الجاحظ في كتابه الحيوان أورد اسم الدلفين في حيوانات الماء دون الرجوع للمجامع اللغوية الحالية؟!) بينما كثير من حراسها الآن والمدافعين عنها يحولونها دون أن يشعروا إلى (كائن ناقص الأهلية) والمجامع اللغوية ليست إلا مؤشراً إلى (نقص الأهلية والضعف) فمهما قرروا ورددوا في مجامعهم أن تعريب (التلفاز) (رائي)، فسيبقى المجال التداولي هو الفيصل في أن (الرائي) سيبقى على لسان العرب (تلفزيون) من المحيط إلى الخليج.
هل يمكن أن تنقرض اللغة العربية؟ نعم وذلك بالمبالغة في تعقيم اللغة العربية من كل طارئ حتى تصبح (لغة مقعرة شديدة التعقيد) ولا أقصد هنا ما يتعلل به الكسالى تحت دعوى الحداثة والتجديد، فأهم رموز الحداثة العربية وقد التقيت ثلاثة من كبارهم وكنت آنذاك في نهاية العقد الثاني من عمري فوجدتهم أحرص الناس على ضرورة (تضلع الشاب بكتب التراث العربي فقهاً وفكراً وفلسفة ولغة وشعراً وأدباً) قبل الانشغال بكتب التنوير والحداثة الأوروبية وغيرها من قراءات مترجمة عن الحضارات القديمة الأخرى.
أختم بالسؤال من جديد بعد تهذيب (الكبرياء) لدى القارئ العربي (المغرور) ليتحلى بأول شروط الموضوعية العلمية في (التواضع المعرفي) وأقول: هل ما زلت تصر على أن اللغة العربية كائن خارق متجاوز للزمن والتاريخ رغم عجزك عن فهم ما يقوله المعري مثلاً في (اللزوميات) بل وتموت فرحاً بشروحات (ديوان المتنبي) المتعددة منذ ابن جني في زمنه وحتى محمود شاكر في زمننا، وهل في هذه الشروحات التي في زمن المتنبي مؤشر إلى (حداثته بين مجايليه) بينما الشروحات التي جاءت بعد ذلك مؤشر إلى (ميلاد قاموس جديد جعل المتنبي قديماً يشرحونه) كديالكتيك لغوي، بين إبداع حديث نوضحه، وقديم مندرس نشرحه، والتقليديون يجتهدون في التعلق بالمندرس، والحداثيون يجتهدون في إبداع الجديد، وبين هذا وذاك نعرف أن الشعر الحقيقي كالمعدن الفني النفيس (الذهب) سواء جاء على شكل عملة نقد/شعر عمودي، أو على شكل حلي وغوايش/شعر منثور، فيجد عشاق (المعدن الشعري النفيس) في ديوان بودلير (المترجم) إلى لغتهم (من الشعر) ما لا يجدونه في ديوان عربي مليء بالنظم العمودي البارد، فالتعصب للمعدن النفيس منظوماً ومنثوراً، وليس للنحاس حتى ولو جاء على شكل ذهب مسبوك.