والمقصود بالتعارف، بحسب تفسيره، الحركة بين الانفصال والاتّصال في آن، من خلال «رؤية الذّات خارج الأهواء»، سواء كانت هذه الأهواء إيديولوجيّة أم عرقيّة أم دينيّة أم لغويّة أم سلاليّة. فهل الهويّة جوهر قائم بذاته لا يتغيّر أو يتحوّل، أم هي علاقة تَجمعها مواصفاتٌ بحيث تكوِّن معناها وشكلَها، صورتَها ومضمونَها؟.. وبالتالي لا بدّ من تنميتها وتعزيزها وتفعيلها إذا ما توخّينا الحرص على المُشترَك الإنساني، الأمر الذي يتطلّب الانفتاحَ والتواصلَ مع الآخر، والاعترافَ به وبكلّ ما يتخطّى الركود والتقوقع والثبات.
تعصب مهاجرين
وإذا كانت ثمّة تحوّلات تجري على الهويّة على صعيد المكان - الوطن، فالأمر سيكون أكثر عرضة للتغيير بفعل المنفى وعامل الزمن وتأثير الغربة والاغتراب، وهكذا فإنّ الزمان والمكان لهما تأثير كبير في المتغيّرات المتراكمة، التي تَحدث على الهويّة، وخصوصاً بتفاعلها مع هويّات أخرى. وبحسب محي الدّين بن عربي «فالزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمّد»، وبهذا المعنى فاختلاف الهويّات ليس أمراً مفتعلاً، ولاسيّما باختلاف البلدان والقوميّات أو حتّى داخل الوطن الواحد، لأنّ ثمّة مجموعات ثقافيّة مختلفة إثنيّاً ولغويّاً وسلاليّاً ودينيّاً عن الأخرى، ناهيك باختلاف هويّة الفرد الخاصّة عن غيره من جهة، وعن الجماعة البشريّة من جهة أخرى.
ومن المُفارَقة أنّ بعض المُهاجرين من أصولٍ غير أوروبيّة تراهم الأكثر حماسة، بل تعصّباً لهويّاتهم الجديدة، لدرجة يبدو أنّ هذا التطرّف إزاء الهويّات الأخرى غير المندمجة، إقصائيّاً وتهميشيّاً وحتّى عدائيّاً، وهناك أمثلة صارخة على ذلك.
الهويّات المتمايزة والمُختلفة
ثمّة نوعان من الهويّات، الأولى - التي يُطلَق عليها «الأغلبيّة» مجازاً بحُكم الكثرة العدديّة، والتي تَستبطن التفوُّق والتسيُّد والهيْمَنة، والثانية - التي نُسمّيها «الأقليّة»، التي هي الأقلّ عدداً، والتي تَشمل ضمناً الاستتباعَ والخضوعَ والقبولَ بالمواقع الأدنى، ومثل هذه الثنائيّة فيها الكثير من التفريعات المتناقضة أحياناً، والتي تحتاج إلى فحصٍ دقيق في إطار مبادئ المواطنة والمساواة التي تقوم عليها الدولة العصريّة.
هكذا تُظهِر تعقيداتُ المجتمعات الثنائيّة المعاصرة، من حيث التماسك الاجتماعي وحقوق ما نطلق عليه «الأقليّات»، ارتباطاً بمفهوم التعدّديّة الثقافيّة العرقيّة والدينيّة واللّغويّة، ولاسيّما في إطار المفاهيم اللّيبراليّة وعلاقتها بالفرد والفردانيّة، سواء من زاويتها الفلسفيّة أم الأنثروبولوجيّة. وثمّة سجالات عميقة في الغرب تتّخذ أحياناً شكلَ قوانين وقرارات للسلطات المحليّة، وفي أحيان أخرى شكل احتكاكات مجتمعيّة وردود أفعال شديدة، وهذه وتلك ترتبط بعلاقات الاعتراف أو عدم الاعتراف بالتنوّع الثقافي والهويّات المتمايزة والمُختلفة، والمعيار هو سقف المواطنة التي يحدّدها القانون.
وقد تكثَّفت الأبحاث والدراسات إزاء هذه العلاقة وحساسيّتها بحثاً عن الهويّة قَبل ما يزيد على أربعة عقود من الزمن، ولاسيّما عشيّة انتهاء عهد الحرب الباردة وبُعيدها.
التمايز الثقافي لا يُحترم
تسبّبت الهجرة، من الجنوب إلى الشمال، ومن البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنيّة، ومن البلدان المتخلّفة إلى البلدان الصناعيّة، في إحداثِ تغييراتٍ على صعيد البنية الثقافيّة والاجتماعيّة في العديد من بلدان أوروبا، ونجمَ عنها سياساتٌ رسميّة وردود فعلٍ غير رسميّة، لأنّها تتعلّق بالتنوّع الثقافي وقبول الآخر والحقوق والواجبات التي تترتّب عنها، ونجمَ عن ذلك توتّراتٌ أحياناً، وصراعاتٌ ونزاعاتٌ بسبب التعصّب ووليده التطرّف وأعمال عنف، سواء في محاولةٍ لتحقيق الذّات أم لحمايتها إزاء الوافدين الجدد، ناهيك بالسعي لتحقيق التوازن بين الوحدة والتنوّع.
إنّ الحديث عن هويّات فرعيّة أو خصوصيّات قوميّة أو دينيّة لمجموعة ثقافيّة مُتمايزة، يستفزّ أحياناً بعض التيّارات الشعبويّة المتعصّبة إثنيّاً أو دينيّاً؛ فهي لا ترى في مجتمعاتها سوى هويّة واحدة سائدة باسم القوميّة أو الدّين، والأمر يزداد حساسيّةً وتعصّباً لدرجة التطرُّف في البلدان النامية ومنها مجتمعاتنا العربيّة، حيث تُعتبر كلّ رغبة في تحقيق الذّات أو التعبير عن الخصوصيّة الهويّاتية خروجاً عمّا هو سائد أو انشقاقاً عنه أو رغبةً في الانفصال، تستحقّ أحياناً العقاب والتحريم والتجريم، فما بالك إذا كانت هذه الرغبة باسم مجموعة ثقافيّة!
هنا قد تُتّهم الدولة بالظلم، سواء في علاقاتها مع المجموعات الثقافيّة الأخرى أم بسبب بعض إجراءاتها ضدّ المهاجرين، وهو أمر حاصل، ولاسيّما في أوقات الأزمات مع بلدان الأصل التي أتوا منها أو بسبب تعارُض الثقافات في بعض جوانبها، حيث يتمّ التعكّز على صراع الهويّات أو كما يُطلق عليها صاموئيل هنتنغتون «صدام الحضارات».
ومثل هذا الموقف، الذي يتهّم الدولة بالتقصير، ناجمٌ أحياناً عن طغيان الأغلبيّة، أو من شعور الأقليّة بالاضْطهاد، ولا يهمّ في ذلك مواقف الدولة، التي تدعو لتحقيق مساواةٍ مواطنيّة في إطار الاندماج أو الإبقاء على الاختلاف والحفاظ على الهويّات.
أمّا الشعور بالغبن والإجحاف، فإنّه يأتي من الطرفَيْن، «فالأقليّة» تَشعر أنّ التمايز الثقافي لا يُحترم ولا يُطبّق بما فيه الكفاية، وأنّ حدود هويّاتهم مهدّدة، بل مهدورة، وهو ما يعطيها الحقّ في «التمرّد»، ضدّ سياسات الهَيْمَنة، وهو الشعور الذي رافقَ المسلمين وأنصارَ حقوق الإنسان إزاء «الحقّ في الحجاب» في فرنسا بالضدّ من القانون، الذي يَفرض خلْع الحجاب، والأمر يتعلّق أيضاً بالكاريكاتيرات المُسيئة للنبيّ محمّد (ص) في الصحافة الدانماركيّة، وبعض الصحف الأوروبيّة وغيرها من القضايا.
في حين أنّ شعور «الأغلبيّة» المُهيْمِنة، يقوم على الاختلافات الثقافيّة التي هي أمرٌ موضوعي وطبيعي بنظرها، في حين أنّه بنَظَرِ «الأقليّة» تمييزٌ ضدّها، ويتمّ ذلك عبر استبعاد بعض أفرادها بزعمِ عدم إتقانهم اللّغة الرسميّة السائدة في البلد، أو ثمّة حساسيّات أمنيّة خاصّة. فـ «الأغلبيّة» هي التي تمتلك القوّة لتُقرّر «أنّ على الأقليّة أن تُصبح مثلها، مثلما هي التي تُقرّر متى تبقى الأقليّة مختلفة عنها، أي متى يتمّ استيعابُها ودمْجُها والاستفادة منها، ومتى يتمّ استبعادُها وعزلُها وتهميشُها تبعاً لمصلحة الأغلبيّة».
وأحيانًا تجري عمليّةُ استخفافٍ بالمُهاجرين واللّاجئين في أوروبا أو الاستهانة بقدراتهم، بسبب عدم تقدير خصوصيّاتهم الثقافيّة، سواء بدمجهم من دون إرادتهم أم بوضع مسافة بينهم وبين السكّان المحليّين، وفي الحالتيْن لمصلحة «الأغلبيّة» وقراراتها المُهيْمِنة، ولاسيّما بصعود الشعبويّة في العديد من بلدان أوروبا، والأمر يتعلّق بإنكار ثقافتهم أو إقرارها. وفي كلٍّ من الحالتَيْن ثمّة نظرة إسقاطيّة مُسبقة، حيث يتمّ وضْع عقباتٍ أمام الهويّات الفرعيّة كي تكون متميّزة، أي وفْق نظرة تمييزيّة للاندماج القسري أو بفرْض التمييز باسم «الأحقيّة» وحُكم الأغلبيّة، وهكذا يُسبِّب مثل هذا التمايُز الثقافي تذمُّراً وسخطاً، سواء بسبب المُعاملة المساواتيّة أم التفريقيّة للأقليّات، وهو ما يثير احتكاكات وردود أفعالٍ متبادَلة.
الاعتبارات الأنثروبولوجيّة
وقد تنامت الانتقاداتُ للتعدديّة الثقافيّة في أوروبا عموماً من زاويتَيْن، أحدها «للأقليّة»، وثانيها «للأغلبيّة»، بما له صلة بالإقرار أو الإنكار، وبما له علاقة بالهويّة والحقوق، قبولاً أو تحفّظاً. فالتعدّديّة الثقافيّة هي خاصيّة من خواصّ المجتمع المتعدّد الثقافات، أي كيف يُمكن للدولة الحفاظ على الهويّات المتميّزة للجماعات الثقافيّة، ولاسيّما الإثنيّة في مجتمعٍ موحَّد، لكنّه يقوم على التنوّع الثقافي؟
وعلى مثل هذه القاعدة يعترض المتعصّبون من الأغلبيّة، ويَعتبرون ذلك تساهلُاً مُبالغاً فيه للعادات والتقاليد الوافدة على حساب الثقافة الأصليّة، ولاسيّما بدعمها للهجرة، حيث يُمنح المهاجرون الكثير من الحقوق وعليهم القليل من الواجبات، وهكذا أَخذت تتّسع مَوجةُ العداء للأجانب «الزينوفوبيا»، وازدادت موجةُ العداء للإسلام والمُسلمين، «الإسلاموفوبيا»، ولاسيّما بعد الأحداث الإجراميّة التي حصلت في الولايات المتّحدة بتفجير برجَيْ التجارة العالميّة في 11 سبتمبر 2001.
أمّا المهاجرون، فإنّهم ينظرون إلى وفادتهم باعتبارها هذا الحقّ الأصيل من حقوق الإنسان، وقّعت عليه الدولُ الغربيّة واعترفتْ به قوانينها، وما عليها إلّا تأمين تنفيذ هذا الحقّ، بما يتّفق مع الموقف الإنساني، بغضّ النّظر عن الاختلاف الهويّاتي، إضافة إلى الاعتبارات الأنثروبولوجيّة، فليس من الضروري أن يكون المجتمع قائماً على مجموعة إثنيّة أو دينيّة واحدة، لكي يكون مُتماسكاً، بل إنّ التعدّديّة الثقافيّة (التنوّع) تُحدِث مثل هذا التوازن.
إنّ التعصّب هو اتّجاهٌ إلغائيٌّ لمَن لا يتعصّب له، ويَكشف جدلُ الهويّات أنّ اختيارَ الصراع بدلاً من التعايُش، والصدامَ بدلاً من الوئام، هو الأمر الذي سيكون ضارّاً وخطراً على الهويّات الكبرى والصغرى، وهذه الأخيرة إن لم يتمّ احترامُها وتأمين حقوقِها المُتساوية، ستكون عنصرَ ضعفٍ كبيرٍ يتّسع باستمرار على مستوى الهويّة من جهة، والدولة من جهةٍ أخرى.
* مفكّر وباحث من العراق
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية