عرفات.. هنالك ينكشف الغطاء، وتنفتح أبواب السماء، فيتوجه الحجاج إلى الله بقلوب انزاحت عنها ظلمة الأهواء والشهوات ومن عليها، وأشرقت عليها الأنوار، فسمت حتى رأت الأرض ذرة صغيرة تحملها رياح القدرة، ثم سمت حتى سمعت تسبيح الملائكة بألسنة الطاعة، ثم سمت حتى تدبرت القرآن غضًا عريضًا، كأنما نزل به الوحى أمس، وسمعت النداء من جانب القدس: «يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شُعُوبا وقبائلَ لِتَعَارَفُوا، إِنْ أَكْرَمَكُم عِنْدَ الله اتقاكم»، فأجابت: لبيك اللهم لبيك !، فرددت بطاح عرفات، وأرجاء الحرم، ورددت السموات السبع والأرضون السبع: لبيك اللهم لبيك!.

هنالك تتنفس الإنسانية التي خنقها دخان البارود، وعلامات الحدود، وسيد ومسود، وعبد ومعبود، وتحيا في عرفات، حيث لا كبير ولا صغير، ولا عظيم ولا حقير، ولا مأمور ولا أمير، ولا غني ولا فقير.

هنالك تتحقق المثل العليا التي لم يعرفها الغرب إلا في أدمغة الفلاسفة وبطون الأسفار، فتزول الشرور، وترتفع الأحقاد، وتعم المساواة، ويسود السلام، ويجتمع الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم في صعيد واحد، لباسهم واحد، يتوجهون إلى رب واحد، ويؤمنون بنبي واحد، ويدينون بدين واحد، ويصيحون بلسان واحد: «لبيك اللهم لبيك»!. هنالك تظهر المعجزة الباقية، فتطوى الأرض ثم تؤخذ من أطرافها، حتى توضع كلها في عرفات، فتلتقى شطآن إفريقية بسواحل آسية، ومدن أوربة بأكواخ السودان، ونهر الكنج بنهر النيل، وجبال طوروس بجبال البلوز، فيعرف المسلم أن وطنه أوسع من أن تحده على الأرض جبال أو بحار، أو تمزقه ألوان على المصور فوق ألوان «إنما المؤمنون إخوة»، لا (إنما المصريون....»، ولا «إنما الشاميون...)، ولا «إنما العراقيون....).


هنالك يتفقد الأخوة إخوتهم، فيعين القوى الضعيف، ويعطى الغني الفقير، ويساعد العزيز الذليل، فلا ينصرفون من الحج إلا وهم أقوياء أغنياء أعزاء.

هناك يذكر المسلم كيف مر سيد العالم -صلى الله عليه وسلم- بهذه البطاح مهاجرًا إلى الله، تاركًا بلده التي نشأ فيها، وقومه الذين ربى فيهم، وكيف جاء حتى وقف على الحزورة، فنظر إلى مكة، وقال: «إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وإنك لأحب بلاد الله إلى، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت»، ثم يستقبل هذه الصحراء الهائلة، ليس معه إلا الصديق الأعظم، يتلفت كلما سار ليتزود بنظرة من مكة حتى غابت وراء الأفق الفسيح، فانطلقا يؤمان الغار.

هل علمت هذه البطاح أن هذا الرجل الفرد الذي قام وحده في وجه العالم كله، يصرع باطله بقوة الحق، ويبدد جهالته بنور الإسلام، ويهدى ضلالته بهدى القرآن، والذي فر من مكة مستخفيًا، سيعود إليها بعشرة آلاف من الأبطال المغاوير، فتفتح له مكة أبوابها، وتتهاوى عند قدميه أصنامها، ثم تعنو له الجزيرة، ثم يخضع لدينه نصف المعمور؟.

هل علمت هذه البطاح أن هؤلاء النفر الذين مروا بها هاربين من جبروت قريش وسلطانها سيعزون حتى تدين لهم قريش، ثم يعزون حتى يرثوا كسرى وقيصر في أرضيهما، ثم يعزون حتى يرثوا الأرض ومن عليها، وسيكثرون حتى يبلغوا أربعمائة مليون، وسيتفرقون في الأرض داعين مجاهدين فاتحين، ثم يجتمعون في عرفات حاجين منيبين ملبين: لبيك اللهم لبيك!.

هنالك وقف سيد العالم -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع يعلن حقوق الإنسان، ويقرر مبادئ السلام، وينشر الأخوة والعدالة والمساواة بين الناس، قبل أن تنشرها فرنسا بألف عام.. وهنالك وقف يعلن انتهاء الرسالة الكبرى التي بعثه الله بها إلى الناس كافة، ويتلو قوله جل وعز: «اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لكم دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا»؛ ويبعث صحابته ليحملوا هذه الرسالة إلى آخر الأرض، ثم يحملوها إلى آخر الزمان، فحملوها وأنشأوا بها هذه الحضارة التي استظل بظلها الشرق، ويستظل بظلها الغرب.

في عرفات تتجلى عظمة الإسلام، دين الحرية والمساواة والعلم والحضارة؛ ومن عرفات يسمع المسلمون داعي الله يدعو: حي على الصلاة! حى على الفلاح! فيجيبون: لبيك اللهم لبيك!، وينطلقون ليعملوا للآخرة كأنهم يموتون غدًا، ويعملوا للدنيا كأنهم يعيشون أبدًا.

1936*

* أديب سعودي (1327 - 1999)