تسارعت خطوات العالم نحو تطور مُذهل في مختلف المجالات، ومن أبرزها ما شهده من تطورٍ متزايد ظهر من خلال الدخول للعالم الرقمي الواسع واستعماله في شتى مناحي الحياة، الأمر الذي أثّر على حياة الأفراد من شتى الأقطار، وأصبح جزءًا لا يتجزأ من تعاملاتهم اليوميّة.

في السابق كان الاعتماد على الأدلة الرقمية كرسائل البريد الإلكتروني أو الإمضاء الإلكتروني، أو رسائل الواتساب ونحوها، محطّ نظرٍ وتساؤل: هل يُقبل أن تكون دليلًا يقفُ بهِ المدعي أمام المحكمة لإثبات الحقّ الذي يدّعي به؟ أم أنها فقيرَة القيمة القانونية ولا يمكن التمسّك بها؟

لقد صدر نظام الإثبات الجديد الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/43) وتاريخ 1443/5/26هـ، ليـُعطي الأدلة الرقمية مكانة غير مسبوقة في الحجية القانونية لتُصبِحَ منافسةً للدليل الكتابيّ، فيكون حُكمها كحكمِه.

فما هو هذا الدليل الرقمي؟

يعرف الدليل الرقمي بأنه "كل دليل مستمد من أي بيانات تنشأ أو تصدر أو تسلم أو تحفظ أو تبلغ بوسيلة رقمية، وتكون قابلة للاسترجاع أو الحصول عليها بصورة يمكن فهمها." وذلك كما ورد في نص المادة الثالثة والخمسون من نظام الإثبات.

كما يشمل الدليل الرقمي صورًا عديدة ذكرها النظام، حيث يشمل الدليل الرقمي السجل الرقمي، والمحرَّر الرقمي، التوقيع الرقمي، والمراسلات الرقمية بما فيها البريد الرقمي، وكذلك وسائل الاتصال والوسائط الرقمية، وأضاف أخيرًا أي دليل رقمي آخر... مما يبيّن أن هذه الوسائل الرقمية المذكورة سابقًا جاءت على سبيل المثال لا الحصر، فبموجب هذه الفقرة، يعد أيُّ دليلٍ رقميٍ آخر قد يستجدّ أو يُضاف مستقبلًا على الصور التي ورد ذكرها سابقًا، يمكن اعتباره دليلًا رقميًا يعتدّ به في نظام الإثبات.

كما يثور التساؤل كثيرًا حول قيمة هذا الدليل الرقمي، فهل يمكن للمدعي الاستناد على دليل رقمي في دعواه ليُثبتَ بهِ الحقّ الذي يدّعيه؟ وهل تكون له قيمة قانونية معتبرة أمام القضاء؟

لقد أجاب النظام على ذلك في مادته الخامسة والخمسون، بقوله: "يكون للإثبات بالدليل الرقمي حكم الإثبات بالكتابة الوارد في هذا النظام."

فقد أعطت هذه المادة الدليل الرقمي قيمة قانونية عالية وارتقت به ليكون مساويًا للإثبات بالكتابة، وقد كان العمل سابقًا في الاحتجاج بالدليل الرقمي مختلَفًا فيه بين القضاة فهناك من يأخذ به ومنهم من لا يأخذ به بل يجعله قرينة تعضُد بقية الأدلة، غير أن نظام الإثبات الجديد رفع من مكانته ليكون بجانب بقية أدلة الإثبات الأخرى، وبذات قوة الكتابة كدليل للإثبات، ولعل السبب في ذلك هو انتشار الوسائل الرقمية وكثرة التعامل بها بين الناس، مما جعل ذلك أمرًا ضروريًا لاستقرار المعاملات وتسهيل تمسّك أصحاب الحقوق بحقوقهم.

تجدر الإشارة إلى أن طريقة تقديم الدليل الرقمي من الأمور الهامة التي يجب عدم إغفالها ليُعدّ تقديمها تقديمًا صحيحًا يعتدّ به، وهذه من الأمور التي قد يغفل عنها صاحبها فيكون هذا الدليل حجةً عليه بعد أن كان حُجةً له، حيث يجب تقديم الدليل الرقمي بهيئته الأصلية، أو بأي وسيلة رقمية أخرى، وللمحكمة أن تطلب تقديم محتواه مكتوبًا؛ متى كانت طبيعته تسمح بذلك، ومن ثَمّ إذا امتنع أي من الخصوم عن تقديم ما طلبته المحكمة للتحقق من صحة الدليل الرقمي بغير عذر مقبول؛ سقط حقه في التمسك به أو عدّ حجة عليه بحسب الأحوال، كما يجب أن يرافق تقديم أي دليل رقمي بيان نوع الدليل الرقمي، إضافة إلى مضمون الدليل، ونسخة منه متى كانت طبيعته تسمح بذلك، على سبيل المثال: إن كان الدليل الرقمي عبارة عن مراسلة رقمية تتمثل في محادثة صوتيّة مسجلة، يجب على المدعي تقديم هذا الدليل بهيئته الأصلية، وتحديد نوعه بكونه رسالة صوتية مُسجلة من قبل المدعى عليه مثلًا، ومن ثمّ يحرر مضمون هذه الرسالة الصوتية بشكل مكتوب لتقديمه للمحكمة، وهذا يُمثل ضرورة التحقق من صحة الدليل الرقمي من قِبل المحكمَة ليصحّ التمسك به من قبل الخصم الذي قدمه، كما أنه في حال تعذر التحقق من صحة الدليل الرقمي بسبب لا يعود للخصوم أنفسهم، حينئذ يكون للمحكمة دورٌ تقديري، حيث تجتهد لتُقدّر حجية هذا الدليل الرقمي بحسب ما يظهر لها من ظروف الدعوى، كما أن لها أن تستعين بخبير للتحقق منه.

وقد أوضح النظام أن على الخصم الذي يدعي عدم صحة الدليل الرقمي الذي يتم الاحتجاج به؛ فيكون عليه عبء إثبات ادعائه، ويكون إثبات ادعاء عدم صحة الدليل الرقمي وفقًا للنظام إما بإثبات التزوير لهذا الدليل الرقمي، أو بإثبات خلاف مضمونه الذي جاء به، مما يبين أن الأصل في هذا الدليل الرقمي هو الصحّة ومن يدعي عكس ذلك فعليه عبء إثبات ذلك، وهذا الأمر كذلك مما يوضح المكانة القانونية التي أولاها النظام للدليل الرقمي.

في كل ذلك، تتضح جليًا الجهود الحثيثة في تطوير التنظيم القانوني في المملكة العربية السعودية، حيث يعد الدليل الرقمي من أهم الأمور المستجدة التي جاء بها نظام الإثبات الجديد وأقرّ لها المكانة الكبيرة في الإثبات، الأمر الذي جاء متماشيًا مع النهضة التكنولوجية، والانتشار الواسع للتعاملات الإلكترونية، مما يشجع الأشخاص على التقدم والتعامل إلكترونيًا باطمئنان؛ لأن ما ينشأ عن ذلك -بموجب هذا النظام- سيكون معتدًا به في إثبات الحقوق ونفيها.

ويأتي ذلك من منطلقات رؤية المملكة العربية السعودية 2030، التي جاء من أهدافها أن تكرس الحكومة جهودها في التحول الرقمي، وتحسين الخدمات العامة لتلبية احتياجات المواطنين والمقيمين؛ لبناء مجتمع حيويّ.