لم يُعدَم الإنسان وسائل تأمين حاجيّاته مذ خُلق على هذه الأرض. وكانت مَوارِد الطبيعة وثرواتها مصدره الأوّل في تأمين هذه الحاجيّات، لكنّها لم تكُن علاقة تبادليّة إيجابًا وحبًّا، إذ مارَسَ الإنسان سطوته وجبروته عليها، «فظَهر الفسادُ في البرّ والبحر بما كسبتْ أيدي الناس». وبالرّغم من قفزات تطوُّر البشريّة الحضاري، وإبداعها في تأمين هذه الحاجيّات، فإنّ الإنسان لعب دَوره في التنكيل بهذه الموارد سلبًا وإيجابًا بما هو فوق الأرض وفي باطنها، سعيًا لتحقيق أرباحٍ مسَّت بمناخها وبدأت نتائج مخاطر ذلك بالظهور..

والرّغم من محاولات الدول، خلال تطوُّر هياكلها وأدواتها، تنظيم عمليّة تأمين هذه الموارد عبر طُرق التجارة السلعيّة ومأْسَسَتِها (منظّمة التجارة العالميّة مثالاً)، فإنّ هذه التجارة تحوّلت إلى أدوات نهبٍ لموارد الطبيعة كيفما كان، وأحيانًا كثيرة عبر تمويل الحروب المدمِّرة كي يُراكِم هذا البعض ثرواته. هذا ما سنَجده طيّات الكتاب الذي ألَّفه الصحافيَّان من وكالة «بلومبيرج نيوز» خافيير بلاس وجاك فاركي، وقد عملا فيها لعقودٍ، وتقصّدا تحرّياتهما لمُلاحقة عددٍ من الشركات وثروات أصحابها وصفقاتهم (صدر الكتاب حديثًا بعنوان «العالَم للبيع - المال والسلطة وتجّار يقايضون موارد الأرض»/ دار الساقي - بيروت).

السيطرة المُطلَقة

في مقدّمة الكتاب يقول المؤلّفان إنّ صناعة التجارة السلعيّة لم تتمتّع «يومًا بأيّ نَوع من الشفافيّة، لذلك اضطرْرنا إلى الاعتماد في معظم الأحيان على رغبة مصادرنا في تزويدنا بالمعلومات، ومن أولئك الذين ساعدونا أوّلاً على فهْم طبيعة عملهم قَبل سنواتٍ عدّة، إلى العشرات ممَّن وافقوا حديثًا على إجراء مُقابلات مسجَّلة لاستخدامها في هذا الكتاب» (ص355).

ويتابعان: «خلال سنة من الأبحاث التي أعددناها من أجل هذا الكِتاب، التقينا بأكثر من تاجر بضائع نشط أو متقاعد، وجمعنا آلاف الصفحات من الوثائق التي لم يُنشر الكثير منها، وتفصّل موارد التجارة الماليّة وشبكة الشركات التي يملكونها وبنية صفحاتهم. إنّ هؤلاء الأفراد والشركات من تجّار السلع يتحكّمون بتدفُّق الموارد الطبيعيّة حول العالَم إذ يتركَّز في أيديهم نَوع فريد من السلطة السياسيّة والاقتصاديّة».

من هنا، انطلق الصحافيّان/ المؤلِّفان في بحثهما الجدير بالاهتمام، بحيث تُدلِّل قصّة هذه الشركات على آليّة عمل العالَم الحديث الذي يتميّز بالسيطرة المُطلَقة للسوق، وحيث إنّه مع «تحوُّل الولايات المتّحدة إلى قوّة عظمى، وَجدت في التجّار الأوائل رُسلها المثاليّين للرأسماليّة» (ص23).

التجارة والتغيُّر المناخيّ

في هذا السياق، برز استهتارهم بتأثير تجارتهم على التغيُّر المناخي، ودارَ النقاش حول الوقود الأحفوري، بما يمثّله من تهديدٍ كبير لأعمالهم بالجانب المتعلِّق بتجارة النفط (أنصح بقراءة كتاب الباحث والإعلامي سعد محيو بعنوان «الخروج من جهنّم: انتفاضة وعي بيئي كَوني جديد أو الانقراض» الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربيّة، الذي يفرد فيه صفحات حول مخاطر أساليب التنقيب عن النفط الصخري في أمريكا الشماليّة).

وفي استنتاجنا لسلوكيّات هذا النَّوع من تجّار السلع، فإنّ روح المغامرة تغمر تفكيرهم، وإقدامهم، مع غياب حسابات المَخاطر وأكلافها، وبلا رادعٍ ذاتيّ، إذ «إنّ أحدًا لم يكُن قادرًا على المجازفة بتزويد جيشٍ من المُتمرّدين في وسط حربٍ أهليّة، كما فعل أيان تايلور صاحب شركة Vitol وهو أحد عمالقة التجارة النفطيّة وقد جعلَ منها قوّةً فعّالة في الاقتصاد العالمي (كما يَرِد في الكتاب)، إضافة إلى أنّ «الشركة تتمتّع بميزةٍ أخرى تتمثّل في علاقاتها السياسيّة بكلٍّ من لندن وواشنطن. وتايلور هو أحد أبرز المُتبرّعين لحزب المُحافظين».. أمّا عن دَور هذه الشركة/ الأنموذج في تجارة السلع ومَخاطر المُغامرة، فيُشير الكاتبان إلى دَور شركة Vitol في قلْبِ موازين الحرب في ليبيا لمصلحة المُتمرّدين اللّيبيّين الذين كانوا يفتقرون إلى المال لشراء الأسلحة لكنّهم يُسيطرون على النفط الخامّ..

يكشف المؤلِّفان الكثير من أسرار هذه الشركات وأرباحها الصافية بمئات ملايين الدولارات الأمريكيّة، ويتحدّثان عن دهاء أدمغة أصحاب الشركات الكبرى من تجّار السلاح، ويذكران الكثير من الأمثلة ومنها أنّه عندما أَقدمت شركة Vitol على القيام بمُغامرتها مع متمّردين لا يملكون شيئًا في ليبيا، «كانت عَيْنها على مليارات الدولارات المجمَّدة في حساباتٍ مصرفيّة غربيّة تعود للقذّافي» (الرئيس اللّيبي الراحل) (ص13)، كما أنّهم ساعدوا في بَيع النفط العراقي، بالرّغم من العقوبات المفروضة من قِبَل الأُمم المتّحدة أيّام صدّام حسين، وزوَّدوا فيديل كاسترو بالنفط مقابل السكّر، وباعوا سرًّا ملايين الأطنان من القمح الأمريكي والذرة الأمريكية للاتّحاد السوفياتي. هذا ما يؤكّده الكاتبان، ويقولان: «إنّهم مستعدّون للعمل في أماكن لا تتجرّأ الشركاتُ الأخرى على الدخول إليها، كما أنّهم يَجنون الأرباح الوفيرة عبر مزيجٍ من القسوة والسحر الشخصي».

تجّار السلع

يُسمّي المؤلِّفان أسماءَ أبرز ثلاثة روّاد في مجال تجارة السلع ويصفونهم بأنّهم مدفوعون بأيديولوجيّة الربح وهُم الأمريكيون: لودفيغ جسلسون، جون مكميلان وثيودور وايزر، إذ «كان هؤلاء الرجال الثلاثة الآباء المؤسّسين لصناعة تجارة السلع الحديثة، وقَبل عقودٍ من انتشار كلمة العَوْلَمة في المجال الاقتصادي، ولكن مع ولادة حقبة جديدة من الرأسماليّة الشرسة بدأت ساعة تجّار السلع بالمَغيب». وهذا ما يشرحه المؤلِّفان الأخصّائيّان في قضايا الطّاقة والسلع والمؤسّسات التجاريّة. وكذلك في كشفهم عن دَور شركة &Co Marc Rich لمؤسِّسها مارك ريتش، وهو أكبر تاجر للألمنيوم في العالَم، الذي بَرَزَ نفوذُه المالي والسياسي من تجارته في دولة جامايكا التي كانت على حافّة الإفلاس في سبعينيّات القرن الماضي، مع العِلم أنّ مادّة الألمنيوم في ذاك الوقت كانت حاجةً للآلة العسكريّة في صناعة الطائرات، (ما دفعَ بهذه الشركة لأن تَعمد إلى توزيع بطاقات سينمائيّة مجّانيّة للأطفال، مُقابل جمع رقائق الألمنيوم)، وهذا ما يقود المؤلِّفَيْن إلى القول «بالنسبة إلى تجّار السلع من أمثال ريتش الذين يتمتّعون بنَهَمٍ كبير للمُجازفة والرّغبة في الإتجار مع أيِّ طَرَفٍ كان، كانت بيئة مثاليّة؛ فهُم إذا أَمّمت حكومةٌ يساريّة صناعةَ مواردها يكون التُجّار جاهزين لمساعدتها في بَيع سلعها، وإن استولَت حكومةٌ يمينيّة على السلطة عبر انقلابٍ عسكري، فسوف تكون بحاجة إلى مَن يساعدها في بيع سِلَعِها أيضًا».

تغيُّرات سياسيّة عالميّة

لكن، مع توسُّع الأسواق الماليّة للسلع، واتّساع أسواق السلع نتيجة عَوْلمتها، ووقوع أحداث سياسيّة هزّت منظومة الدول الاشتراكيّة، بَدأ نَوعٌ آخر من التجّار يُهيمن على صناعة السلع، وبالنسبة إلى هؤلاء كان الاتّحاد السوفياتي أقرب إلى مَنجمِ الذهب، ومثله في كوبا التي اتَّجهت نحو نَوعٍ من «اللّبْرَلة الاقتصاديّة». حصل ذلك في بداية التسعينيّات وأوّله مع شركة Vitol، مع إشارتهما إلى «مصدر جديد للطلب على الموارد الطبيعيّة بدأ يتشكَّل وسوف يُغيِّر تجارتهم بصورة راديكاليّة: الصين» (ص189)، ثمّ باتجاه أفريقيا.

يتناول الكاتبان في الفصل الثاني عشر تحت عنوان «مصنع المليارديرات» الظهورَ العلنيّ لِما سمّوه «الطرح العامّ الأوّلي» الذي قادته شركة Glencore وكان تجسيدًا واضحًا للثروات النّاجمة عن الازدهار السلعي، ومؤشّرًا كبيرًا على خروج تجّار السلع من الظلّ إلى العَلَن، إذ حوّل عقدٌ من النموّ الصيني المُذهل شركة Glencore ومُنافسيها إلى ركائز أساسيّة في النظام العالَمي الاقتصادي الجديد (ص281)، كما أنّه و«عندما حوّلَ ارتفاعُ الإنتاج النفطي من تشكيلات الصخور الطفليّة الولايات المتحدة في الـ 2015 إلى مصدرٍ مهمٍّ للنفط الخامّ للمرّة الأولى منذ أربعين عامًا، لم يكُن تجّار السلع السبّاقين إلى شراء النفط فقط بل سارعوا أيضًا إلى بناء البنى التحتيّة اللّازمة للربط بين حقول النفط الأمريكية وباقي مناطق العالَم» (ص283).. وكما لم يَحدث من قَبل، صار هؤلاء التجّار قادرين على تشكيل الأحداث العالَميّة (ص302)، وهو ما شرحه المؤلِّفان في الفصل الثالث عشر، ويوردان وقائع جَرَت لـخمسماية ألف من المعلّمين العاملين والمُتقاعدين في ولاية بنسلفانيا ومدّخراتهم من النظام التقاعدي لموظّفي المدارس العامّة وقيمته خمسين مليار دولار، ومثلهم مدّخرات ستمائة ألف شرطيٍّ وقاضٍ وعاملٍ في القطاع العامّ، حيث استثمرَت شركة Glencore هذه الأموال في شراء النفط، كما الدور السياسي والدعم الاقتصادي لإقليم كردستان العراق. وهكذا، «لم يعُد تجّار السلع يجازفون بأموالهم الخاصّة، بل أخذوا يعملون كحلقاتِ ربْطٍ مع الأسواق الماليّة العالَميّة، فيُسخّرون الأموال القادمة من المصارف والصناديق التقاعديّة ومُستثمرين آخرين في صفقاتٍ سلعيّة مع بلدان نائية» (ص310)، وكانوا يتوسّعون ليلعبوا دَور الوسطاء الماليّين أيضًا، و«لم يكُن من باب المصادفة حدوث ذلك بُعيد الأزمة الماليّة العالميّة في سنة 2008».

غياب التنوُّع الجنساني

في خاتمة الكتاب، وتحت عنوان «الكثير من الأسرار الدفينة» يُشيران إلى الفلسفة المُتغيّرة للحكومة الأمريكية حول العالَم الخارجي: «فمن الآن وصاعدًا سوف تعمل على مُواجَهة أيّ سلوكيّات تتعارض مع سياساتها الخارجيّة، حتّى ولو اضطرَّت إلى مُهاجمة شركات كبيرة في بلدانٍ حليفة» (ص332). أمّا تجّار السلع، فقد أخطأ مَن أعتقد أنّ شمسهم آيلة إلى الغروب، إذ إنّهم سيبقون أداةً مهمّة للاقتصاد العالَمي. فانتشار فيروس كورونا حول العالَم سنة 2020 أدّى إلى أعمق أزمة واجَهت الاقتصادَ العالمي منذ الكساد الكبير في ثلاثينيّات القرن الماضي، وإلى تحرُّك تجّار السلع.

يبقى أن نشير إلى بعض الملاحظات التي وردتْ في صفحات هذا الكتاب الزّاخر بالمعلومات والوقائع، حيث يذكر الكاتبان واقع «تشكيل مجالس إدارة مكوّنة حصريًّا من رجالٍ بيض، وغياب التنوُّع الجنساني بغياب العنصر النسائي عن مجالس الإدارة هذه».

لكنّ ما نلاحظه منذ عقدَيْن من الألفيّة الثالثة أنّ التُجّار سيبقون أقوياء في القضايا العالَميّة بدافعٍ من الحاجات الاقتصاديّة والسياسيّة المَخفيّة والمُعلَنة، وسنلاحظ المزيد من النساء في مواقع عليا في إدارات الشركات ومواقع النفوذ، وستبقى الدول تبحث عن آليّات مخاطر الإنسان على الطبيعة والمناخ.. فيما الصرخة تزداد يوماً بعد يوم.

* إعلاميّة من لبنان

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق