تحت عبارة (خلك رجال) يضطر كثيرون إلى كبت آلامهم الجسيمة وأحزانهم الكبيرة في دواخلهم، ويحبسون دموعهم بالقوة امتثالا لها، وخجلا منها، مع أنهم يحتاجون إلى إطلاقها لتحرر قلوبهم من أوجاع الفقد والفراق ومواقف الألم والأحزان.

وسادت ثقافة أن البكاء لا يليق بالرجال، فهو يبقى عادة للنساء والفتيات وصغار السن، ومن المعيب في مجتمعنا أن يبكي الرجل، إذ لا بد أن يظهر القوة والتحمل والصبر والعزيمة، ولو بكى وشوهدت دموعه فإنه يفقد كثيرا من رصيد رجولته وشخصيته حسب ما يرى كثيرون.

قسوة العادات

يرى أخصائي علم النفس فراس قاسم مهدي أن عادات وتقاليد مجتمعنا قست في حكمها على الرجل الذى يبكي، مما جعل كثيرا من الرجال يكتمون دموعهم، ويحبسونها حتى فى أصعب المواقف التى يمرون بها، فقد اعتاد الأبناء منذ صغر سنهم وفي مراحل الطفولة على أن البكاء للبنات فقط، وأنه لا يجب على الرجل أن يبكي، وأن عزة نفسه تأبى عليه البكاء، وتدفعه لأن يخفي دموعه، وكثير من المجتمعات تنظر إلى الرجل على أنه لا بد أن يكون قويا فلا تتحكم فيه مشاعره وعواطفه.

وقال «للأسف فقد شكلت نظرة المجتمع عبئاً كبيرا على الرجل فأصبح عقله يرفض فكرة البكاء ومع الوقت يفقد التوازن النفسى المطلوب، مع أن بكاء الرجل يعبر عن حاجته للدعم العاطفي ممن حوله ليساعدوه على استعادة توازنه وتخلصه مما يثقل كاهله من حزن أو عجز».

تركيبة نفسية

واصل فراس قاسم «كلما ارتقت المجتمعات ارتقت نظرتها للأمور، وعلينا أن أن نفهم أن بكاء الرجل ما هو إلا وسيلة للتعبير عن العاطفة والمشاعر والأحاسيس المرهفة، وكلما قلت درجة الثقافة كلما نظرت إلى دموعه على أنها ضعف».

وتابع «التركيبة النفسية للرجل لا تختلف كثيراً عن المرأة، صحيح أن المرأة عاطفية أكثر ودموعها أسرع عندما لا تستطيع أن تتحمل موقفا ما فتبكي، وبكاؤها هو سلاحها الذي تستخدمه حين تحتاج إليه، لكن مشاعر الحزن والأسى لا تفرق بين رجل وامرأة، فهناك مواقف معينة لا يستطيع الرجل أن يتحكم بانفعالاته خلالها، سواء أكانت نتيجة حزن أو فرح، فتنهمر دموعه كتعبير عن مشاعره كإنسان يتأثر ويتفاعل مع الموقف، سواء أكان فراق عزيز أو فقدانه والشعور بالندم والبكاء من خشية الله، فالبكاء نتيجة لحظة انفعالية معينة لا يتعارض مع قوة الرجل ولا يقلل من قيمته ولا يضعف من شخصيته».

رفضوا أن أبكي أمي

يعتقد أبو فارس (54 سنة) أن المجتمع يمارس قسوة شديدة على الرجل، وقال «للأسف نعيش في مجتمع أقل ما أصفه بالقاسي نوعا ما، فمجتمعنا في المنطقة الجنوبية عامة، ونجران خاصة ما يزال وبشكل كبير جدا يرفض دمعة الرجل، كما يرفض بكاءه، ويعتقد أن البكاء للأطفال والنساء أما الرجال فممنوع، ومرفوض عليهم البكاء إلا ما ندر».

ويضيف «توفيت والدتي، وفارقت الحياة وهي بين يدي في موقف يصعب وصفه ولا يستطيع أحد أن يتحمله أو يتخيله، وقتها كاد قلبي أن يتوقف، فقد توقف نبض أغلى من في هذا الوجود على قلبي، لم أتمالك نفسي ولم أستطع كبح مشاعري فبكيت حرقة وألما، وفي وقت حضور عدد من الأهل والأقارب تداريت جانبا لأفرغ شحنة من داخلي كادت تخنقني، كنت أحتاج إلى البكاء وتفريغ ما بداخلي، ولو بشيء قليل، فإذا بي أجدهم يعانقونني ويحيطون بي، وقال لي أحدهم: الرجال قادمون كن قويا أمامهم، وقال آخر: الله المستعان تبكي وأنت بهذا العمر، وإذا بثالث يقول: اخف دموعك فالأطفال ينظرون إليك، وكثيرا من النقد والعبارات التي فاقمت الحسرة داخلي، وجعلتني أتساءل:أليس لدى الرجل مهما بلغ عمره أحاسيس ومشاعر؟، وهل قلبه من حجارة؟ وأليس من حقه أن يفرغ شيئا من حزنه وألمه؟».

لماذا لا يبكي الرجل

تقول أم عبدالله (معلمة) لماذا لا يبكي الرجال؟، وتتساءل «هل خلقوا بلا أحاسيس ولا مشاعر؟، ولماذا لا يبكون، فالفقد يبكي، والفقر يدمي، والذل يقتل، والعجز يسيل الدموع؟، ولماذا لا يبكون ويخففون من أحزانهم وآلامهم ويعبرون عن مشاعرهم وينفضون ما بداخلهم من مواجع مصدرها الألم والحزن؟».

وتضيف «للأسف لمست منعهم، وشاهدته وسمعته، فما زال كثيرون يرفضون دموع وبكاء الرجل ويشيرون إلى أن الدموع للنساء فقط، أما الرجال فلا يجوز لهم ذلك، ومن المعيب عليهم أن يذرفوا دمعة لأي موقف، صحيح أن الرجل يجب أن قويا وذا عزيمة، ولكنه في النهاية إنسان وبشر يملك مشاعر وأحاسيس جياشة تتأثر بالمواقف التي تبكي القلوب قبل العيون».

تقاليد لا تقبل الضعف

يذهب أبو عبدالرحمن (متقاعد وناشط في مواقع التواصل الاجتماعي) إلى رأي مخالف، ويقول «خلق الرجال للتحمل والصبر، ويجب أن يكونوا مستعدين تماما لمواجهة المواقف الصعبة بحزم وحكمة، فلا يبدون أمام الصغار والنساء ضعيفين فيزيدوا من أحزان هؤلاء، بل يجب أن يظهروا القوة ليخففوا عن النساء والأطفال المصاب، ويعينوهم ويمسحوا دموعهم ويعلموهم الصبر والاحتساب، خصوصا في مواقف الفراق والوداع وفقد عزيز وغالٍ، وإن لزم الأمر فعليه أن يتدارى بعيدا لوحده أو داخل غرفته فيبكي ويفرغ ما بداخله ومن ثم يعود وقد زالت آثار دموعه، حيث يظهر للجميع قوته وعزيمته وتحمله، وبالذات إن كان هو الأكبر والمسؤول والقائد داخل أسرته أو قبيلته، وعليه أن يورث ذلك لأبنائه ومن يعدونه قدوتهم».

ويكمل «هذا ما ورثناه وتعلمناه من أسلافنا، وهي أشياء حميدة لا بأس من الأخذ بها والحفاظ عليها».

البكاء علامة قوة

لا تبدو مسألة أن يعاب على الرجل بكاؤه، حكرا على مجتمعنا، فكثير من المجتمعات تؤمن بهذا المبدأ، وتطالب الرجل بكتم دموعه، وعلى الأخص تلك المجتمعات التي تنظر إلى الرجل بأهمية خاصة، وتلك التي تمنحه دورا قياديا في أسرته ومحيطه.

وعلى خلاف الحالة التبريرية لبكاء الرجل، يرى متخصصون في علم النفس أن بكاء الرجل يمكن أن يعد علامة قوة وشجاعة تعكس قدرته على التعامل مع مشاعره بصدق وقدرته على التعبير عنها.

وهم يرون أن القوة لا ترتبط بقدرة الرجل على كبت مشاعره وعدم البكاء بل بقدرته على التعبير عنها ومعالجتها، مطالبين بتغيير الصورة النمطية القديمة التي ترفض فكرة بكاء الرجال.

وتؤكد دراسات ومقالات تناولت موضوع بكاء الرجل في الثقافات المختلفة أن ميل الرجل إلى البكاء أو امتناعه عنه يمكن تفسيره من خلال عوامل ونظريات عدة، ويمكن رؤية العوامل المؤثرة على نحو فردي يختلف من شخص إلى آخر.

ويعتقد هؤلاء أن العامل الثقافي والتربوي (نظرة المجتمع) يشكل نمط التعبير العاطفي للرجل، ففي بعض الثقافات قد يكون من النادر أن يظهر الرجال بكاءً علنيًا بسبب القيود الثقافية والتوقعات المجتمعية، فيما في ثقافات أخرى يعد البكاء لدى الرجال تعبيرًا طبيعيًا ومقبولًا، ويُرى أن البكاء يخفف الضغط على الرجل ويحرر عواطفه.

عوامل مؤثرة في منع بكاء الرجال

* الثقافة والتربية

ـ تشكلان نمط التعبير العاطفي للرجل

ـ ترسمان قيودا ثقافية وتوقعات مجتمعية تمنع بكاءه

* العواطف والضغوط النفسية

ـ قد يبكي الرجل نتيجة لتجربة عواطف قوية مثل الحزن والخيبة أو الفرح الشديد

ـ البكاء قد يخفف عن الرجل الضغوط ويحرر عواطفه

* التعبير عن الضعف والتواصل العاطفي

ـ قد يكون البكاء وسيلة للتعبير عن الضعف والتحمل العاطفي

ـ قد يكون تعبيرا عن الحاجة إلى الدعم والاهتمام

* الإفراج عن العواطف المكبوتة

ـ البكاء وسيلة للإفراج عن العواطف المكبوتة والمشاعر العميقة

ـ يخلص الرجال من التوتر العاطفي الناجم عن كبت المشاعر

متى يبكي الرجل

ـ في الحزن والألم العاطفي

ـ في السعادة والفرح

ـ عند الإجهاد والضغوط الكبيرة

ـ عند الإحساس بالظلم أو القهر