للعربِ طريقةٌ في وصفِ كُلِ طَعامٍ على حِدة، فطعامُ المولود عند أول قدومه (تُحفة) وعند بلوغه اليوم السابع (عقيقة)، لكنَّ العربَ أيضًا تقول: (مأدبة)، وتعني الدعوة إلى الطعامِ بالمطلق، فمتى تلجأ العربُ لقول (مأدبة) وتترك الأسماء المخصصة؟ هل هو الإطعام بلا سبب عام؟ أو ربما بلا سبب أرضي، كفعل الأديان مثلا؟ فلو دُعِيَ الناسُ لمأدبةٍ من أجلِ الحب، كما جرى ذلك في كتابِ أفلاطون الشهير (المأدبة) أو كما جرى في مجلس الوزير البرمكي لمّا دعا فلاسفةً وعلماء كلامٍ لمأدبةٍ تُناقِشُ الحب، فماذا يُمكِن أن تُسميه العرب؟

إذن قد تعني المأدبة -مما تعنيه- ما خَرجَ عن أسماءِ أطعمةِ العرب العشرة: (القِرى والوليمة والعقيقة والوضيمة والوكيرة والنقيعة والعذيرة والتُحفة والنُزل والخُرس)، وقد تعني ما كان طعامًا معنويًا، كالحب الذي هو طعامٌ يُدعى إليه، وله جذر تراثيٌّ قديم وهو ما جرى لامرأةِ العزيز وحبِّها ليوسف؛ حيث أقامت مأدبةً ودعت النسوةَ ليَريْنَ يوسف فيعذُرنها.

ومثل الحب موضوعات كثيرة (ميتافيزيقية) يمكن إسقاط حديث المقالة عليها، فمن لفظ (المأدبة) جاء لفظ (الأدب)، إذ هو دعوةٌ عامةٌ؛ لترويضِ النفسِ على أخلاقٍ محدَّدة، وهذا يُذكِّرنا بكتابِ (أدب الدنيا والدين)، حيث يُريد المجتمعُ أن يُروِّضَ أفرادَه. وكتابُ أفلاطون (المأدبة) جاء من هذا المعنى؛ إذ الأخلاقُ التي يُراد أن يُروّضَ أفراد المجتمع عليها هي (الحب)، فالكتابُ عبارةٌ عن اجتماعٍ في منزلِ (أغاثون) احتفالًا بفوزِه في مسابقةٍ للشعرِ التراجيدي، بَدأ وتَوسَّط بصناعةِ مَتنٍ حِواريٍّ -في مديحِ الحبِّ- يَتطوّر حتى يَصِلَ إلى رؤيةِ سُقراط الذي عَلِمَ جَوهرَ الحبِّ من العرّافة.


إذن لا بد كي يُروَّض أفرادُ المجتمع أن تكون الدعوة عامة، لكن ذلك لا يُناسِب المأدبة التي قامت على نقاشِ الأفكار والمعاني، كمأدبة الحب، أو مأدبة الدين، أو نحو ذلك، وهذا ما يَجعل المأدبةَ تحتاج إلى زائرٍ لم يُدعَ من صاحب البيت، بل يدعوه الذي سينتصر قولُه في المأدبة، فينقل لنا المعنى من الخاص إلى العام على ما يشتهي المؤلِف. وهذا المعنى أجِده في مقدمةِ كتابِ المأدبة، وذلك في مَطلعِ المشهد الذي يَرسُمه الكتابُ لنا، حين جعلَ سقراط وهو متّجِه إلى بيتِ (أغاثون)، يُقابل (أريستوذيموس)، فيدعوه لمصاحبتِه إلى المأدبة، على الرغمِ من أنَّ (أغاثون) لم يدعه. وإنما دعته رغبةُ سقراط به. ونلحظ أنَّ هذا المدعوّ لا عَلاقة له بالفلسفةِ، وظل صامتًا طوال الجلسة. هذا الزائر هو الطريق الوحيد لنا -كقراء- إلى المعنى الذي تداوله المجتمعون وهو (الحب)، بل إنَّ هذا الزائر حَكى ما سَمِعه لشَخصٍ آخر لا يَعلم عن الاجتماعِ شيئًا، وهو (أبولوزوروس)، وهذا الأخير رواها لثلّةٍ من الأصدقاء -الذين لا تهمهم الفلسفة- بعد سنين طويلة. وربما هي المراحل ذاتها التي تتأسس بها الكتب المقدسة. وقد قُدِّسَت مأدبةُ الحب.

إذن لدينا (مأدبة) بفتح الدال، وبضمها، ففي الضَم يُراد ما قُدِم من حوار -هو بمقامِ الطعام- وفي الفتحِ يُراد التخلّق بنتائج هذا الحوار، واستَخْدم المسلمون كِلا المعنيين؛ يقول ابنُ مسعود: «القرآنُ مأدبةُ الله» بالفتح وبالضم. وصِناعةُ المعنَييْن - بالفتح والضم- مَقصودٌ في الكتب المقدسة، ومقصود في كتاب المأدبة، وعلامة ذلك أنَّ مدارَ الإسنادِ الذي تلتقي عنده حِكايةُ المأدبة -وهو أريستوذيموس- جاءَ به (آخرُ المتحدِّثين) في الحوار وهو سقراط. ولم يكن ذلك عَفوًا، بل هو محاولة لقتلِ العفويّةِ في فهم المعنى المراد، وتحديد شَخصٍ يَنقل عنه المعنى الأخير، ألا ترى أنَّ هذا الراوي لم يَكن له رأيٌ ولا صوتٌ أثناءَ المأدبة، ولم يَظهر صوتُه إلا حين غادر المجلس، وذلك حين رواها لشخصٍ، سيرويها بدورِه لثُلّةٍ من الأصدقاء؟ إذن الراوي (أريستوذيموس) غابَ في وقتِ الحضورِ الحقيقيّ (أثناء المأدبة)، وحضر حين غابَ الواقع الفعلي (بعد انتهاء المأدبة)، وربما هذا فعل الكتب المقدسة عمومًا حين تُكتَب؛ لهذا نلاحظ أنَّ سقراط لا يُحِب حبًا أرضيًّا، لكنَّه يَدعو الناسَ لمأدبة حُبِّه السماوية؛ ففي ختام المأدبة نجد سقراط يُبارِز بالحوار صاحبَ البيت (أغاثُون)، ثم ينتصر عليه، وكأنَّه فتحَ بُلدانًا بعد معركة، أو كأنَّه محتاجٌ لأصحابٍ ينتصرون له ويَروون حكايةَ الحقيقةِ التي جاءت على لسانِ العرَّافة (ديوتيما). وربما لم تكن العرافةُ إلا أفلاطون، فقد عشق الانتصار على شيخِه، لكنه كتم هذه الشهوة وأخرجتْها المأدبة. المأدبةُ الكاشفة لمذاهب التاريخ.

التفاتة:

من لطائف أفعالِ العربِ أن سَمَّوا طعامَ المُتعلِّل قبلَ الغداءِ، (سُلْفَة)، وكأنَّه يَتسَلّف جُزءًا من الغَداء الذي لم يَحِن وقتُه بعد، وهذا يُعادِل أمرين: القولَ الشائع (تصبيرة)، وفعل السُلفة من الراتب.