(سالم) شَخصٌ امتهنَ السرقة، سرقةَ الكتابات، أفكارها، أساليبِها، تراكيبها، نظمَها العجيب، حتى الفاصلة المنقوطة لا يَشرد عن جمالِها حين يقتنصها في سطرٍ جميل. ولا يتحرك سالم إلا والسلالم معه، ويتبعه شُرطيٌ مُتفرّغ له، يعرف أنه لصٌّ لكن لا يملك الدليل.
(2)
حكى سالم لأختِه قصّتَه مع مقالةٍ جميلة، رآها في كُشْكٍ أمامَ البحر. يقول: وقفتُ بكاملِ أناقتي وهدوئي أمامها، فدسستُ قلمِي بين صفحاتِها، أتحسّس جمالَ المفردات، وبدائع التراكيبِ، وذكاء الفكرةِ، ونظم القوامِ الممشوق، أدنو من صدرِها، لأسمع أنفاسَها، ودقات قلبها، فأنتشِلُ قصيدتَها بإبداعٍ ووقار.
(3)وحكى سالم -لجارتِه الكاتبة- قصةَ تأسيسِه عصابةً لسرقةِ الكتابات، تتوزّع الأدوار عليهم بخطةٍ مسرحيّةٍ ذات فصول وشخصيات، يقول: حين نركب قطارَ الكُتَّاب، فإنَّ أوَّلَنا يُداعِب القطعةَ الكِتابيّة بما يضمن له شرودها، فيَنتشِل الثاني فكرةً أو تركيبًا لذيذًا أو أسلوبًا راقصًا اختبأ بين سطورِ جسدها؛ ليُسلّمه للشخصِ الأخير الذي يُدوّنه -بسرعة- على قماشِ فانلتِه الداخلية، ثم نتبادل الأدوار مع قطعةٍ ثانية، وهكذا حتى نتفرّق كأنَّنا لا نعرف بعضًا، وحين يَقف القطارُ نتجمّع، لنؤلفَ بين ما سرقناه. وفي أثناءِ وداعِه جارته، سَرقَ أسلوبَ عِقدٍ علَّقته على جيدها، وهو يتحدث.
(4)
كان سالم بلا ملامح يُعرَف من خلالها أنه خائفٌ، أو مرتبكٌ..! هل سمعتَ يومًا عن وجهِ لصّ؟ إنه وجه سالم، كيف يَعرف ركابُ القطار ذلك؟ لا أدري، لكنَّ الغريبَ أنَّ سالمًا -في كل مرة يَستعدّون لمواجهته، ويظنون أنهم رصدوه في الجرم المشهود- يخرج وقد نَشَلَ كتاباتِهم.
(5)
تَربَّصَ الشرطيُّ بسالم، فأمسكَ به متلبّسًا وهو يضع فاصلة منقوطة أمام كتابةٍ فلسفيّة، فاقتاده للسجن.
(6)
المحامي يَترافع أمام القاضي قائلًا: حُجّتي أنَّ الحياةَ تتدفّق بموكّلِي حين يَسرِق، فهل العدالةُ ضد الحياة؟ ثمّ إنَّه يَستَمتِع بأجسادِ القطع الكتابيّة دونَ أن تدري تلك القِطَع، فهل هذا يُعدّ اغتصابًا؟. رفع سالم صوتَه: لا تنسَ أيها المحامي أنَّ عَالَم الكتابة محدود، وقدراتي غير محدودة. يبتسم المحامي: هذه قضيةٌ سنرفعها لاحقًا، لنطالب بصلاحيّةِ خرق قوانينِ المحكمة لمصلحة الأذكياء.
(7)
ولمَّا حَمي الوطيسُ؛ تفذلكَ المحامي قائلًا: هو يبحثُ عن نُورٍ يُشعِل عتمةَ ذاكرتِه؛ ولا يُلام -أيها القاضي- فالكتابةُ كالعدالةِ شَمسٌ تحاربُ الأقلامُ، لتنالَ سطوعَها على الأوراق. قال المُدّعي العام بهدوء: إنها جُنحة!، ومع سَرقةِ الفاصلةِ المنقوطةِ صارت جريمة، وأطالبُ بأقصى العقوبة. قال سالم: كنتُ خائفًا من ألا أكونَ كاتبًا، لكن -يا حضرة القاضي- أنا صِرتُ كاتبًا لمَّا رأيتُ حبلَ المشنقة، أعني المِحبرة!، ويا له من حبلٍ طويل وغريب.
(8)
سُجِنَ سالم مدى الحياة من أجلٍ فاصلة منقوطة.
التفاتة:
جُعِلَ السَلْبُ مِن معاني السَرقة، وقد تأتي «السلبية» من السلب، وهي بهذا المعنى إنتاجٌ، فماذا لو قيل: «كُن سلبيًا لتنتج» في مقابل مقولة: «كن إيجابيًا لتنتج»!. لكنَّ الأمرَ لا يُسَلِّم لِــ«كُن» وأخواتها، بل يَطرح نظريةَ «السلب» على أنَّها تعترفُ بأمرٍ مهمّ، وهو أنَّ الإيجابَ يُولَد من رَحِم السَلب، ومِن معاني ذلك: ليس الإيجاب إلا سلبًا، وليس الذكر إلا أنثى.
تضامنًا مع سالم سنتذكّر مقولةَ: «يا عزيزي كُلنا لصوص»، أو لنتذكر «سيزيف» الذي حُكِم عليه بدفعِ صخرةٍ للأعلى حتَّى قِمَتها، فإذا قاربَ الوصولَ، تَدحرجَت الصخرةُ، فيُعيد «سيزيف» الكَرَّة، وهكذا بعبثيةٍ لا نهائية.
يهمسُ ألبير كامو بأذنِ سالم: هل ترى يوميات الإنسان وهو يُكَرِّر عملَه كُلَّ يومٍ بصورةٍ رتيبةٍ مخيفة؟ هذا الإنسان يرى لحياته معنى مبنيًا بالإيجابية، أما «سيزيف» فهو سلبي، وحياته خالية من المعنى.