صدرت أول آهة من الإنسان تعبيرًا عن الألم الناتج عن علة أو جرح أو إصابة. ويقال إن أقدم ظاهرتين قدم الإنسان (الدين والطب). وكان جهل الإنسان، وغياب المنهج الفكري، والمنطق السليم، دافعا قويا للاستعانة بداية بالسحر والشعوذة وبعض الأعشاب المتوفرة كوسيلة للتطبيب، حتى بدأ الإنسان يتحرر من الخرافات ويتجه تدريجيا للممارسات المنهجية، وإن كان الطب النفسي آخر من تحرر من سيطرة السحر والشعوذة، حتى وإن بقيت لها بعض من السيطرة عليه حتى وقتنا الحاضر.

شغلت صناعة الطب أهمية كبرى في الحضارات القديمة، كالمصرية والبابلية والصينية والهندية والفارسية واليونانية، حيث تكونت مدارس طبية وفلسفية معتبرة منسوبة لتلك الحضارات، وبعضها لا يزال حاضرا حتى وقتنا الحاضر. عندما ظهرت حضارة العرب والمسلمين، امتصوا رحيق الحضارات السابقة في الطب والفلسفة، ومنحوها قدرًا كبيرًا من اهتمامهم الذي كان يعود بدرجة كبيرة إلى تأثير القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التي كانت تحث على التداوي، وأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق داء إلا وجعل له دواء.

وحدثت النقلة الكبرى للمسلمين في مجال الطب والفلسفة مع ازدهار حركة الترجمة، وتأسيس (دار الحكمة) فترجمت الآلاف من كتب ومخطوطات تلك الأمم وعلى رأسها الحضارة اليونانية، في مجال الطب ترجمت جميع كتب أبو الطب (أبوقراط) وتلميذه (جالينوس)، والكثير من كتب الفرس والهنود، واستطاع علماء المسلمين وضع بصمتهم الخاصة في مؤلفات مستقلة، واهتموا بالجانب التجريبي والتطبيقي عكس أسلافهم من علماء اليونان وغيرهم، والذين كانوا في معظم نتاجهم يركزون على الجانب النظري. كما اهتموا بعلم وصناعة العقاقير وعلم التشريح، والطب الوقائي، وعلم الأمراض وبرز في تلك الفترة أعلام أفذاذ كابن سينا، والرازي، وحنين ابن إسحاق، وابن النفيس والكندي وابن رشد وغيرهم الكثير... ومع حدوث الثورة الصناعية الكبرى وبداية عصر التنوير في أوروبا خطا الطب الحديث والتجريبي، خطواته العملاقة والمفصلية وأورد (وليام بنم) في كتابه (تاريخ الطب) تطور الطب بداية من العصور الكلاسيكية حتى وقتنا الحاضر، في 5 مراحل:

‏1- الطب عند فراش المريض: وهو ممارسة الطب عند فراش المريض، وقد بدأت بأبي قراط، وانتهت إلى الرعاية الصحية الحديثة.

2- طب المكتبات: ونشأت في العصور الوسطى، وانتهت بالثورة المعلوماتية التي نعيشها.

3- طب المستشفيات: جاءت في مرحلة متأخرة، وتمثل تطورا موسعا لممارسة الطب عند فراش المريض، ولكن بأدوات تشخيصية وعلاجية جديدة.

4- الطب المجتمعي: وهذا يهتم بالبنية الصحية والسليمة للبيئة المحيطة. كتوفير المياه النظيفة، والتخلص من النفايات، ووجود شبكة للمجاري، والتحكم في ملوثات الجو، وبرنامج للتطعيمات الأساسية، والاهتمام بصحة الأم والطفل، والنظام الغذائي المتوازن.

5- طب المعامل: ويركز هنا على مخرجات مصانع الأدوية، وما تحتويه أقسام المختبرات والأدوات التشخيصية الأخرى من أجل تطوير عملية التشخيص والعلاج.

مع تطور الطب الحديث وقفزاته الكبرى، وصولا لعصرنا الحالي، ما زال هناك جدل أزلي دار، ولا يزال يدور. هل الطب الحديث بواقعه الحالي هو الطريقة الوحيدة والأفضل التي يمكن أن نستخدمها للتشافي من الأمراض؟ وهل يمكننا القول أيضًا إن الطب الحديث ليس بالضرورة أن يكون هو الطريقة الوحيدة المتاحة؟ فمن يذهب مؤيدًا أن الطب ليس حصرًا على الطب الحديث، يقول: إن الإنسان ومع مرور الزمن واختلاف العوامل المؤثرة المحيطة بالصحة، وتغير نمط الحياة، فإن هذا التغيير قد أصاب المرض نفسه، كما أن زيادة التطور والمعرفة بتفاصيل جسد الإنسان وأعضائه بوظائفها المختلفة، قد زادت وتيرة التخصص، فأصبح لكل طبيب جزءه المسؤول عنه، فانعكس هذا الأمر على المريض وطبيعة فهمه لجسده، وفقدنا في هذه المرحلة التعامل مع الجسد كوحدة كينونية واحدة، وليس على أساس تقسيمها الجزئي، ورصد التفاعلات ما بين الجسد والنفس، وملاحظة أثر كل منهما في المرض والصحة، كما أن انتشار أنواع جديدة من الأمراض دليل على وجود خلل في تعاملنا مع مسببات هذه الأمراض، وأن إرتفاع ثقافة العدوانية المطلقة لمسببات الأمراض، كالبكتيريا التي امتدت إليها النظرة الدارونية للطبيعة، قد زادت من ثقافة التعقيم والتداول الواسع للمضادات الحيوية، وكتأثير مباشر من شركات الأدوية، فنتج عنها اختلال عظيم في التوازن الطبيعي لبكتيريا الجسم المفيدة للصحة (وقد نشأ حديثًا علم طبي جديد وهو الميكروبيوم ويختص بعلاج هذه الظاهرة، (ولنا وقفة معه في مقال مستقل بإذن الله لأهميته الشديدة). كما أن التعامل مع المريض ومعاناته كمجرد مشاكل يمكن حلها منفصلة عن أي اعتبارات أخرى، جعلت الكثير من المرضى يعيدون التفكير في اللجوء لصور أخرى من الطب التقليدي أو الكلاسيكي، ومنها النظريات الفلسفية ومنهجيتها في الطب والتي كانت حتى القرن التاسع عشر تمر بمرحلة مد وجزر مع الطب الحديث، وحينها عقدت مجموعة من النقاشات حول المبادئ الطبية الفلسفية والتي خرجت بنتائج أقرت فيها بهذا الدور الفلسفي الطبي رغم أنه في وقت الحضارة الإغريقية واليونانية، كان يقال لا يوجد فيلسوف دون أن يكون طبيبا، والعكس صحيح... وتساؤلات الفلسفة في الطب كانت كغيرها من تساؤلاتها في المجالات الأخرى، وهي أن الطب ليس مجرد معرفة بجسد المريض، ولكن لا بد من وجود منهج علمي وتشخيصي متناسق قائم على علاج العلة وتقرير الصحة، وبالتالي يكون المريض والطبيب متشاركان ومكملان في الوصول للعلاج، كما تشير أيضًا إلى أن الإفراط الواضح في استخدام التكنولوجيا التقنية كان سببًا في افتقاد الشمولية وطمس المعرفة.

يقول (أبو قراط): إن الصحة حالة من التوازن المستقر، والمرض تصدع في هذا التوازن، كما يقول إن المرض عارض طبيعي، وما الظواهر المرضية إلا ردة فعل من جانب الجسد، وإن أهم ما يقدمه الطبيب للمريض هو تعزيز قوة الجسم المناعية كما يجب أن تكون. كما تقول تلك المدارس الفلسفية الطبية، إن النظرة للإنسان يجب أن تكون كوحدة واحدة لا تتجزأ أو ما يسمى بفلسفة المذهب الكلي أو طب الكليات، فهنا لا نهدف لعلاج العضو المصاب فقط، بل لاستعادة الجسم كاملا لعافيته وتوازنه المفقود. فالجسم كيان مركب من الجسد والعواطف والعقل والروح، وكلها تتفاعل في نسق ديناميكي، نشط ومعقد، وأي مرض أو علة فإنه يكون خللا في هذه التفاعلات، والتي يجب أن ننظر إليها وعلاجها ككل لا يتجزأ، وليس بعلاج الخلل الأصلي... كما يجب إعادة الطاقة داخل الجسم إلى توازنها الطبيعي وهذه قاعدة أساسية في هذا المنهج وهذا ما يسمى بالطاقة الحيوية، وهذه الطريقة تسمى (بالمذهب الحيوي) وهذه الطاقة الحيوية لا تجدها إلا في الكائنات الحية، ولها خصائص لا تجدها في التفاعلات الكيميائية والفيزيائية. كما نجد أن فلاسفة الطب يعتقدون أن التوازن المطلوب لتحقيق الصحة يتحقق بتوازن العناصر الأربعة الماء والهواء، والنار والتراب (لأنبادوقلس) والتوسط بين الإفراط والتفريط لدى (أرسطو) وبين الدم والبلغم، والصفراء والسوداء لدى (أبو قراط)، كما يشيرون إلى محاكاة الطبيعة من خلال الطاقة الحيوية في الجسم، فالطبيعة هنا ليست سلبية، بل واعية بدورها في مصارعة المرض، كما لا ينتقصون من دور الفراسة، فهي من المبادئ المهمة في الفلسفة الطبية، وهي استدلال الباطن من خلال الظاهر، وهي تقوم على الحدس والفطنة وقوة البصيرة وعلى الخبرات المتراكمة.. ومما سبق: نسأل أنفسنا هل يكفي الطبيب الذي امتهن هذه المهنة وفق المنهج الطبي الحديث، فاكتسب منها علومه ومهاراته الإكلينيكية وخبراته الطبية، هل يكفيه كل هذا ليؤدي رسالته السامية كما يجب؟ ليحقق من خلالها أهدافه المرجوة، وبالتالي الرضا الكامل للمريض الذي ينتج عنها امتلاكه للصحة الجيدة الكاملة والشمولية، وهل يحتاج الطبيب إلى وجود مهارات وعلوم أخرى لتحقيق ذلك الهدف يستطيع من خلالها توسيع نظرته الشمولية وإدراج الفراسة والحدس والقدرة على التحليل المنطقي ضمن أجندته، وخصوصا عند ظهور مناطق رمادية تقف عندها الممارسة الطبية الحديثة فلا تستطيع تجاوزها... وهل نحن بحاجة لإدخال بعض المناهج والمقررات لبعض علوم الطب التقليدية والمبادئ الفلسفية الطبية، والتي أثبتت رسوخها وخدمتها للمنهجية الطبية في مناهج كلياتنا الطبية، وبما لا يخل ويتعارض مع عقيدتنا وقيمنا الإسلامية السامية...

يقول جلال أمين «إن لكل عصر خرافاته وأساطيره وخرافة عصرنا الحديث التقدم؛ فنحن نعتقد أن تاريخ الإنسان هو تاريخ تقدم متصل من الأسوأ إلى الأفضل».