وفي الوقت الذي يتصدى فيه كثيرون للمفاضلة بين هذين النوعين من العلوم، يرى الباحث التونسي الدكتور حمادي المسعودي أن الجمع بينهما أولى، وهو يؤكد في تقرير نشرته دورية أفق أن العديد من العلماء والباحثين المختصين ورجال السياسة وأهل الصناعات والتكنولوجيا العلوم الدقيقة، يرون أنه بالعلوم الدقيقة استطاع الإنسان بلوغ أقصى مراتب التقدم، وتمكن من تلبيةِ حاجاته المادية، وقضى على الفقر بوفرة الإنتاج، وقرب المسافات باختراع أسرع وسائل النقل، وانتقل بعد اكتشاف الأرض ظاهرها وباطنها إلى اكتشاف الفضاء وما فيه.
تعويل على الدقيقة
ثمة تساؤلات تركز على أنه لم يكن من الممكن لكل هذا التقدم الذي نعيشه أن يحدث، وأن تلك العلوم الدقيقة القائمة على الفيزياء والكيمياء والهندسة والرياضيّات والتكنولوجيا حوّلت العالم إلى قرية صغيرة، وأوجدت وسائل اتصال ومواصلات شتى بما فيها وسائل النقل بمُختلف أنواعها (برّيّة وبحريّة وجوّيّة) وأنواع الهواتف والتواصل الاجتماعي.
وبمثل هذه العلوم تمكَّن الإنسان من السيادة على الطّبيعة والقضاء على الجراثيم الفتّاكة والأمراض القاتلة، وسخر كل شيء لخدمته، وأسهم التطور الكبير للطب والتنظيم المحكم للنظام الغذائي في إطالة عمر الإنسان.
ويضيف المسعودي «بواسطة الصناعة العلمية والطبية، استطاع الإنسان التصرف بمطلق الحرية في جسده، فيغير لون بشرته، ويقوم بعمليات تجميلية، وأن يتبرع ببعض أعضائه إلى غيره، فيهبه مدة حياة أطول وظروفًا للعيش أفضل، وأن تتمكن المرأة والرجل العاقران من أن يكون لهما أبناء الأنابيب بعدما كانا يعيشان حالة يأسٍ وحرمان من الأبناء «زينة الحياة الدنيا» بحسب العبارة القرآنيّة الشهيرة، و«أزهار المنزل» بحسب عبارة الشاعر الفرنسي فيكتور هيجو».
اعتقاد خاص
مقابل كل ذلك التقدير للعلوم الدقيقة، رأى رجال سياسة ومفكرون في بعض دول العالم أن العلوم الإنسانية غير مفيدة على مستوى التقدم والرقي بالشعوب كون ثمراتها غير ملموسة، إن لم تكن مُنعدمة.
وتتهم العلوم الإنسانية بأنها على خلاف تلك الدقيقة تقوم على الإمكانات والاحتمالات والظن والشك، ولا ترقى مباحثها إلى القاعدة العلمية أو النظريّة العلمية العامة.
ووسمت العلوم الإنسانية لدى البعض بأنها محض أحلام وتخيلات ومشاعر، وقد تكون من معطلات التقدم والرقي ومن معضلاته المزمنة. لذلك زهدت فيها كثير من دول العالم الثالث والدول النامية.
مقارنات
يشير متهمو العلوم الإنسانية إلى أن ما حققه العالم الغربي من تقدم في مُختلف المجالات، وما بلغه من ازدهار ورفاه، ومن اكتشافات واختراعات جاء نتيجة عنايته بالعلوم الدقيقة وإعطائها الأولوية المطلقة في التمويل والتعليم والتدريس، وقد خصصوا لهذه العلوم ميزانيات كبيرة، وتبنتها شركات عظمى أَسهمت في تمويلها.
مبالغة عربية إسلامية
بالغت كثير من الدول العربية والإسلامية بالتوجه في سياسة التعليم والتصنيع، وتجلت مبالغتها في بعث المؤسسات ذات الاختصاص العلمي الدقيق ومنها الفيزياء والكيمياء والآلات والتكنولوجيا والتقنيات والهندسة والطب ومعامل التصنيع، لكنها في المقابل أحالت العلوم الإنسانيّة على اختلاف مناحيها إلى جانب لا يخلو من اللامبالاة أو قلة العناية.
لكن الغريب أن تلك الدول العربية والإسلامية التي ذهبت هذا المذهب ما تزال كثيرة الاستيراد من الغرب في جل مجالات الحياة تقريباً بما في ذلك الصناعات الخفيفة والثقيلة.
وكشفت جائحة كوفيد ـ 19 عن حاجة هذه الدول إلى منتوج العالَم المتقدم في كثير من المجالات الضرورية.
حقائق الواقع
يوضح المسعودي في إطار دفاعه عن وجهة نظره بأن الجمع بين العلوم الدقيقة والإنسانية ضروري «الواقع والتاريخ يؤكدان أن الشعوب والدول المتقدمة والتي بلغت شوطاً كبيراً في الازدهار الحضاري والرفاه المعيشي والاكتفاء الذاتي في الضروريات والكماليات لم يكُن ما بلغته من تقدم ورقي في سائر المجالات مقصورًا على ميادين العلوم الصحيحة، لأن الازدهار المادي والتقدم الصناعي كان يواكبهما تقدم وازدهار في جميع العلوم الإنسانية والفنون: الفنون الجميلة والآداب واللّغات والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد والاجتماع... لأنّ الاهتمام والعناية كانا موجهين بالمقدار نفسه إلى مختلف أنواع المعارف والعلوم. فكان التقدم في الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والتقنية والتكنولوجيا... يواكبه تقدم في الآداب واللّغات والفنون والفلسفة والسّياسة والاقتصاد والاجتماع».
ويتابع «يُخطئ من يعتقد أن التقدم في العالم الغربي مقصور على ما أثمرته العلوم الصحيحة، ويُخطئ أيضًا مَن يقول إن العناية نفسها لم تكن موجهة إلى العلوم الإنسانية على اختلاف تفريعاتها في هذه البلدان المتقدمة؛ وما على هؤلاء إلا أن ينظروا إلى ما بلغته العلوم الإنسانيّة في نظرياتها ومناهجها ومفاهيمها من ازدهارٍ وتقدم ليتأكدوا من أن الإنسانية تعجز عن الطيران والتحليق إذا كان أحد جناحيها مكسورًا، وأن الكائن البشري يظل متصدع الكيان، مُنفصم الشخصية إذا لم يحدث اعتدال أو اتزان فيه بين البعدين المادي والروحي، وأن غزو الفضاء لم يكُن ليتم لو لم يؤمن الإنسان بحريته وبمسؤوليته في نحْت كيانه، وبمركزيته في الكون وبضرورة تغيير الواقع ووعيه أنه هو وحده المسؤول عن تغييره نحو الأفضل».
عصر ذهبي
يذهب المسعودي أعمق في حديثه عن الإنسان العربي تحديدًا، ويؤكد أنه عرف «العصر الذهبي» عندما نزل العقل المكانة الجديرة به، وجَمَعَ في شخصه الأديبَ والفيلسوفَ وعالِم الدّين والطبيب والمهندس وعالِم الرياضيات والفلكيّ من دون صراعٍ أو تنافر. فكان موسوعيّ المعرفة، عقلانيّ التفكير.
ويقول المسعودي «ابن رشد الأندلسي كان طبيباً وفيلسوفًا وأديبًا وقاضيًا، وابن طفيل كان فيلسوفًا وأديبًا وقاضيًا وطبيبًا، وكان ابن سينا طبيبًا، كتب في الطب والفلسفة والرياضيّات والفَلَك والأدب، وكان أبو ريحان محمّد بن أحمد البيروني فلكيًّا كَتَبَ في الهيأة والفَلَك وفي الآلات والعمل بها وفي الأزمنة والأوقات وفي الحساب والهندسة وفي الطبيعة والأدب وفي الأديان. وكان عُمر الخيّام فيلسوفًا وشاعرًا وعالِمًا بالفقه واللّغة والتاريخ والقراءات السبع.
وفي العالَم الغربيّ كان أرسطو فيلسوفًا وعالِمًا في الطبيعة والفلك والأخلاق والسياسة والخطابة والشعر، وكان بطليموس عالِمًا في الفلك والرياضيات والجغرافيا والفيزياء والتاريخ. وكان جاليليو جاليلي عالِمَ رياضيات وفلك وطبيعة وفيزياء، وكان نيقولا كوبرنيكوس طبيبًا وعالِمَ فَلَك، وكان ديكارت فيلسوفًا وعالِمَ رياضيّات وفيزياء وفيزيولوجيا، وكان جان دالمبير عالِم رياضيّات وفيلسوفًا، وله إسهامات في الميكانيكا، وكان إسحاق نيوتن عالِمًا في الفيزياء والرياضيّات والفلسفة الطبيعيّة».
عصر التنوير
سمي القرن الـ18 للميلاد في أوروبا بعصر التنوير لأنه حفل بإنجازات فكرية مُستنيرة، وعُدَّ العقل فيه من أهم الركائز التي نهض عليها الفكر التنويري في أوروبا.
وقامَ الفكرُ التنويري على الدعوة إلى الثورة على الأوضاع المتردّية سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، ودعا المفكرون التنويريون (فولتير، روسو، مونتسكيو، ديدرو...) إلى بناء عالَمٍ جديد عماده العقل والحريّة والعدل والمُساواة والديمقراطيّة وحماية حقوق الإنسان على المُستويات كافة.
ولم يكُن النّقد الذي وجّهه الفكر التّنويري إلى المؤسّسات الرسمية خاصًا بمُجتمعٍ بعَيْنه، بل كان يشمل جميع المجتمعات التي يعيش أهلها الظروفَ نفسها ويعانون المشكلات والقيود ذاتها. ولم تكُن القيَم التي نادى بها فلاسفةُ التنوير مقصورةً على بلدٍ دون آخر أو على شعب دون شعب، وإنّما كانت لفائدة جميع الناس وجميع الشعوب من دون تمييز. وقد استفادت شعوبٌ كثيرة من هذا الفكر طوال القرنَيْن الـ19 والـ20، وانتشر الفكر التنويريّ في كثير من البلدان في أوروبا، وبخاصة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وهذا يؤكّد أنّ ذاك التفكير كان فكرًا كونيًا ولم يكُن تفكيرًا محصورًا في بلدٍ معين.
كل هذا، يؤكد أن العلوم لم تكن قديمًا منفصلة بعضها عن بعض، بل كانت متصلة، وكان كل عِلم يؤدي خدمات جليلة للبشرية، وكان العالِم الواحد مُلمًّا باختصاصاتٍ عدة، فكان متنوّع التكوين، موسوعيّ المعرفة، كثير الفائدة، غزير العطاء.
وكان ذلك الاتصال بين العلوم المُختلفة سببًا مهمًا في خلق توازن وانسجام بين أبعاد الإنسان المتنوّعة وفي تلبية حاجاته المُختلفة.
الحجج المرجحة لأفضلية العلوم الدقيقة
ـ العلوم الدقيقة حوّلت العالم إلى قرية صغيرة
ـ أوجدت وسائل اتصال ومواصلات شتى
ـ مكنت الإنسان من السيادة على الطّبيعة والقضاء على الجراثيم الفتّاكة والأمراض القاتلة
ـ أطالت عمر الإنسان عبر تطور الطب والتنظيم المحكم للنظام الغذائي
ـ مكنت الإنسان من التصرف بجسده والتبرع بأعضائه
مبررات منتقدي العلوم الإنسانية
ـ غير مفيدة على مستوى التقدم والرقي بالشعوب
ـ ثمراتها غير ملموسة، إن لم تكن مُنعدمة
ـ تقوم على الإمكانات والاحتمالات والظن والشك
ـ لا ترقى مباحثها إلى القاعدة العلمية أو النظريّة العلمية العامة
ـ وصفت بأنها محض أحلام وتخيلات ومشاعر
ـ قد تكون من معطلات التقدم والرقي ومن معضلاته المزمنة
ـ العالم الغربي حقق تقدمه لعنايته بالعلوم الدقيقة وإعطائها أولوية التمويل والتعليم والتدريس