يكثر الحديث عن أسباب كارثة هجرة التونسيّين والتونسيّات أرض الوطن، وبخاصّة إلى أوروبا. لا يكاد يُذكر عامل اللّغة كمشجِّعٍ كبير على الهجرة؛ إذ إنّ معرفة لغات الآخرين تُحفِّز الناسَ على الهجرة إلى بلدان تلك اللّغات، وتعلُّم اللّغات هو تأشيرة خضراء تسهِّل الحياةَ والاندماجَ في مُجتمعاتِ الهجرة. تلك معطيات ذات صدقيّة عالية بالنسبة إلى دَور معرفة اللّغات والرغبة في الهجرة.

ممّا يزيد في التشجيع على الهجرة هو هجرة المُواطنين للغاتهم في بلدانهم، في الحديث والكتابة، كما تشهد لاحقًا على ذلك السلوكيّات اللّغويّة في المُجتمع التونسيّ. هذا فضلًا عن العلاقة الوثيقة بين اللّغات وهويّات الشعوب، كما يتجلّى ذلك في عدم هجرة المُجتمعات الأوروبيّة ومقاطعة كيبك في كندا، والأكراد في العراق، لِلُغاتها. وفي المُقابل، فهجرة كثير من التونسيّات والتونسيّين للّغة الوطنيّة/ العربيّة في الحديث والكتابة، لا بدّ أن تكون لها آثارٌ قويّة على ارتباك هويّتهم العربيّة.

هجرة اللّغة العربيّة في المجتمع التونسيّ


1. عُرف في العهد البورقيبي أنّ مَحاضِر اجتماعات الوزراء كانت تُكتب في الغالب بالفرنسيّة. كما يَشهد مُرافقو الرئيس بورقيبة أنّه كان يستعمل الفرنسيّة عوضًا عن العربيّة، مثلاً، في لقاءاته مع القادة الأمريكيّين أو الألمان. أي تقع ترجمة كلام الرئيس بورقيبة إلى مُخاطبَيْه من الفرنسيّة وليس من اللّغة الوطنيّة إلى الإنكليزيّة أو الألمانيّة. وبكلّ تأكيد لا يقتصر هذا السّلوك اللّغوي على بورقيبة فقط، وإنّما هذا الأخير هو مجرّد رأس جبل الجليد للنّخب السياسيّة والثقافيّة التونسيّة والطّبقات الاجتماعيّة العليا والمتوسّطة.. بحيث يفيد التحليل بأنّ ذلك السلوك اللّغوي غير الوطني عند الرئيس، وغيره من النّخب السياسيّة والثقافيّة وغيرهم، يعود في المقام الأوّل إلى افتقارهم للتعليم الذي يُدرَّس باللّغة العربيّة فقط (الحَجْر اللّغوي) حتّى نهاية المرحلة الثانويّة على الأقلّ.

2. صرّح وزير التربية محمود المسعدي في مقابلةٍ مع مجلّة الحزب الحاكم Dialogue بخصوص عدم تعريب التّدريس في المدارس التونسيّة قائلاً: «يجب تدريس التلاميذ التونسيّين باللّغة الفرنسيّة وتعليمهم اللّغة العربيّة».

3. تتعامل جلّ البنوك التونسيّة مع زبائنها التّونسيّين بالفرنسيّة كتابيّاً حتّى يومنا هذا.

4. لا يكاد يستعمل التونسيّات والتونسيّون إلّا اللّغة الفرنسيّة في الحديث عن أرقام الأشياء. وهذا ما يشهد به، مثلًا، حديثهم عن أرقام شبكة المترو في العاصمة.

5. نظّمت النساء الديمقراطيّات لقاءً في 28 /01/2012 في «بيت الحكمة» ليتحدَّث فيه بعض النّساء المثقّفات في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة عن وضع المرأة في المنطقة العربيّة- الإسلاميّة. وقد اختارت جميع المتحدّثات الفرنسيّة في القيام بمداخلاتهنّ، بالرغم من أنّ مكانة المرأة في القرآن، والحديث، ولدى الفقهاء، كانت الموضوع الرئيس.

6. لا تكاد التونسيّات يستعملْن إلّا اللّغة الفرنسيّة في الحديث عن ألوان الملابس ومقاييسها.

7. لا تَكتب الأغلبيّةُ السّاحقةُ من التونسيّات والتونسيّين صكوكَها المصرفيّة/ شيكاتها إلّا باللّغة الفرنسيّة.

8. تكتبُ إدارةُ المعهد التحضيري الجامعي Lipest، في ضواحي تونس العاصمة، الأسماءَ العربيّة للأساتذة التونسيّين وغيرهم من الموظّفين على أبواب مكاتبهم بالحروف الأجنبيّة.

فتلك السلوكيّات اللّغويّة هي في المقام الأوّل نتيجة لنمط التعليم في المجتمع التونسي الذي لا يتبنّى نظام ما سمّيته أعلاه الحَجْر اللّغوي الذي يُدرِّس جميعَ الموادّ باللّغة الوطنيّة فقط، حتّى نهاية التعليم الثانوي على الأقلّ.

( هَجْرَ المجتمع لحقّه في استعمال لغته فقط في الحديث والكتابة هو حصيلةٌ لهجرةٍ مزدوجة: داخليّة وخارجيّة تقودهما النُّخب المثقّفة الفاقدة في معظمها للحَجْر اللّغوي الحامي لها)

الهجرة النفسيّة للعربيّة لدى أطفال تونس

لا يكاد يتحدّث أحدٌ في المُجتمع التونسي عن المضارّ التي تتعرّض لها علاقةُ الأطفال التونسيّين باللّغة العربيّة في الروضات. فعِلم النَّفس يؤكِّد أنّ السنَّ المبكّرة هي المرحلة المثاليّة التي يكسب فيها الطفلُ علاقةً سليمة وحميمة مع لغته، إذا لم يتدخَّل تعلّمُ لغاتٍ أخرى في ذلك العمر المبكّر فتفسد العلاقة الطبيعيّة السويّة مع اللّغة الوطنيّة لدى هؤلاء الأطفال الذين سيحملون هذا العبء معهم إلى سنّ الكهولة وما بعدها حتّى الشيخوخة. وممّا يزيد الطين بلّة، أنّ جلّ النساء المُدرِّسات في الروضات يَمِلْنَ إلى جذْبِ الأطفال أكثر إلى تعلُّم اللّغتَيْن الفرنسيّة الإنجليزية، وذلك بتقمّصهنّ ضمنيًّا أو جهارًا لسلوكيّاتٍ يتعلّم منها الأطفال أنّ هاتَيْن اللّغتَيْن أفضل من العربيّة. إنّ هذا السلوك اللّغوي النسائي المُتحيِّز للّغات الأجنبيّة ليس بالأمر المفاجئ بالنسبة إلى تفسير هذه الظاهرة. يتمثَّل تفسيرنا الخاصّ في أنّ موقع المرأة في شبكة ثلاثيّة (الفرنسي/ الفرنسيّة والتونسي/ التونسيّة) يدفعها إلى التحيّز إلى اللّغة الفرنسيّة وغيرها. يأتي هذا من أنّها تحتلّ المكانةَ السفلى في تلك الشبكة الثلاثيّة حيث يكون الفرنسي/ الفرنسيّة في المكانة العليا، والتونسي في المرتبة الثانية، والتونسيّة في المكانة الأخيرة. ولرفْعِ موقعها تلجأ المرأةُ التونسيّة إلى أدواتٍ رمزيّة تعتقد أنّها تُحسِّن من وضعها الاجتماعي وتُكسبها معالِم الحداثة والتقدُّم وهي استعمال اللّغة الفرنسيّة شفويًّا وكتابةً أكثر من التونسي، وبنبرةٍ باريسيّة. ومن ثمَّ، يُنتظر أن يؤثِّر ذلك السلوك سلبًا على علاقة هؤلاء الأطفال بلغتهم العربيّة. تمثِّل هذه السلوكيات اللّغويّة التونسيّة من الروضات إلى أعلى السلطات ما ينبغي تسميتها منظومة الاستلاب أو الاغتصاب اللّغوي في القمّة والقاعدة، ومن بينهما ولدى الكبار والصغار في المُجتمع التونسي بعد أكثر من نصف قرن من «الاستقلال». فهل تبقى صدقيّة كاملة للقول إنّ العربيّة هي لغة الأمّهات التونسيّات؟

حماية الحجْر اللّغويّ من هَجْرِ العربيّة

فالسؤال المشروع هنا: لماذا توجد وتستمرّ ظاهرة التلوُّث اللّغوي لدى القمّة والقاعدة وما بينهما؟ نجيب عن السؤال بطرْحِ فكرة أو مفهوم أو نظريّة تكاد لا تخطر على بال الخاصّة، ناهيك بالعامّة. تفيد الملاحظات بوجود تشابه بين الإجراءات الصحيّة الشديدة ضدّ تفشّي فيروس جائحة كورونا (الابتعاد الاجتماعي، ولباس الكمّامات، وغسل اليدَيْن، والعزْل المنزلي...) والإجراءات اللّغويّة المتمثّلة في استعمال اللّغة الوطنيّة فقط في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم: الابتدائيّة والإعداديّة والثانويّة. يتمثَّل هذا التشابُه في أنّ كلّاً منهما يؤدّي بِمَن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظٍّ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا، وتحاشي تفشّي التلوُّث اللّغوي في الحديث والكتابة واحترام اللّغة الوطنيّة أكثر من غيرها.

لقد تبنّى نظام التعليم في المدارس التونسيّة نَمطَيْن في لغة التدريس:

1 - التدريس بلغتَيْن هُما العربيّة والفرنسيّة كلغةٍ أجنبيّة استعماريّة في مراحل التعليم الثلاث المذكورة.

2 - التدريس بلغةٍ واحدة فقط هي اللّغة العربيّة في تلك المراحل الثلاث.

نكتفي بذكْرِ مثالَيْن على حضور أو غياب الحَجْر اللّغوي في المجتمع التونسي بعد الاستقلال:

1 -إنّ خرّيجي التعليم التونسي في ما سُمّي «شعبة أ» في مطلع الاستقلال في المجتمع التونسي مثالٌ للآثار الإيجابيّة للحَجْر اللّغوي على العلاقة مع اللّغة العربيّة. لقد دَرَسَ هؤلاء الخرّيجون من تلك الشعبة مختلف الموادّ باللّغة العربيّة فقط، من المرحلة الابتدائيّة حتّى السنة الأخيرة من المرحلة الثانويّة.

2 -أمّا خرّيجو باقي نظام التعليم التونسي، وهُم اليوم أغلبيّة المتعلّمين التونسيّين، فهُم فاقدون للحَجْر اللّغوي، أي أنّهم دَرسوا في الماضي أو يدرسون في الحاضر باللّغة الفرنسيّة فقط، ابتداءً من المرحلة الثانويّة، ما يُسمّى بالموادّ العلميّة مثل الرياضيّات والفيزياء والعلوم الطبيعيّة.

إذن، فالتكوين اللّغوي لهذَيْن الصنفَيْن من نظام لغة التدريس هو العامل الحاسم الذي أدّى إلى الفَرق بينهما في هجرة اللّغة العربيّة أو احتضانها. فمن ناحية، يُدافِع خرّيجو تعليم شعبة (أ) ونظام التعليم الزيتوني بشدّة عن حقّ المُجتمع التونسي في استعمال لغته العربيّة وعدم السماح للّغات الأجنبيّة بمنافستها على أرضها. ومن ناحية ثانية، يتّصف المتعلّمون التونسيّون الفاقدون لنظام تعليمِ الحَجْر اللّغوي بموقفٍ مُتذَبْذبٍ نحو مُنافَسة اللّغة الفرنسيّة للّغة العربيّة في المجتمع التونسي. وبالتالي، فهم يكادون لا يؤمنون ويتصرّفون لمصلحة حقّ المجتمع التونسي الكامل في استعمال لغته الوطنيّة فقط في جميع شؤونه على أرضه. وللشفافيّة العلميّة ولتسمية الأشياء بمُسمّياتها يجب القول إنّ التجربة التونسيّة في تعلُّم لغة المُستعمِر في عهدَيْ الاحتلال والاستقلال تُبيِّن، بما لا يَدَع مجالاً للشكّ، أنّها عاملُ تشويشٍ في أحسن الأحوال واستلاب لغوي في حالاتٍ أخرى كثيرة، ينْقَضُّ على اللّغة العربيّة لدى عديد المتعلّمين والمثقّفين الفاقدين للحَجْر اللّغوي. يُشخِّص رفييل بتاي مؤلِّف كتاب «العقل العربي» (1983) آثار التعليم المزدوج اللّغة (الفاقد للحَجْر اللّغوي) المتحيّز للفرنسيّة وثقافتها في مجتمعات المغرب العربي. فوجَد أنّ هذا التعليم يؤدّي عمومًا إلى الأعراض التالية لدى خرّيجيه:

1 ـ الانتماء إلى ثقافتَيْن من دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأيٍّ منهما.

2 ـ التذبْذُب المزدوج يتمثّل في رغبتهم بكسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب، ومع مجتمعهم في الوقت نفسه، من دون النجاح في أيٍّ منهما.

3 ـ يتّصف خرّيجو ذلك التعليم بشخصيّة مُنفصِمة ناتجة عن مُعايَشة عاملَيْن قويَّيْن مُتعاكسَيْن: الارتباط بالثقافة العربيّة والانجذاب إلى الثقافة الغربيّة.

4 ـ عداء سافر للاستعمار الفرنسي، يقابله ترحيب كبير بلغته وثقافته.

عِبَرُ دَور الحَجْر اللّغويّ في صدّ هَجْر العربيّة

تكشف الموضوعيّة أنّ تعلُّم اللّغة الفرنسيّة والتدريس بها (غياب الحَجْر اللّغوي) في عهدَيْ الاستعمار والاستقلال، يمثِّل اغتصابًا لغويًّا يَحرم اللّغةَ العربيّة من حضورها كحقٍّ للسيادة الكاملة والتحرُّر الحقيقيّ للمجتمع التونسي. ومن ثمّ، يتّضح أنَّ هَجْرَ المجتمع التونسي لحقّه في استعمال لغته فقط في الحديث والكتابة هو حصيلةٌ لهجرةٍ مزدوجة: داخليّة وخارجيّة تقودهما النُّخب التونسيّة المثقّفة والسياسيّة الفاقدة في معظمها للحَجْر اللّغوي الحامي لها من هَجْرِ لغتها الوطنيّة. تلخِّص المعادلةُ التالية ما سبق ذكره:

هجرة اللّغة العربيّة = استلاب وتلوّث لغويّان+ هجرة النُّخب للعربيّة + هجرة العباد للبلاد.

*عالِم اجتماع من تونس.

* ينشر متزامنا مع دورية " أفق".