في كثير من الأحيان كان هناك حديث عن أن دفء العائلة ودعمها يؤثران نفسيا على إيجابية الشخص، لكن أبحاثا رائدة سلطت الضوء على أن الأمر يؤثر على بنية الدماغ ووظيفته، حيث إنه حين يعيش الإنسان في بيئة متوترة، وفي ظل نقص في الدعم العائلي وغياب الدفء عن العلاقة الأسرية، يصبح الحُصين الخاص بدماغه أصغر، بينما يكبر هذا الحُصين لدى من يعيشون في بيئة يتلقون فيها دعم الأبوين، ويجدون فيها دفء العائلة.

كما تستنتج الدراسة أن الطريقة التي يتم بها دعم الأطفال وما يشعرون به، يمكن أن تمهد الطريق لكثير من تطورهم عندما يكبرون.

والحُصين هو منطقة في الدماغ تلعب دورًا حاسمًا في التعلم والذاكرة، وتكون عرضة للتوتر بشكل كبير.


ويمتلك الإنسان حُصينًا في كل جانب من جانبي الدماغ، ويلعب الحصين عددا من الأدوار المهمة في عرض المعلومات من الذاكرة قصيرة الأمد إلى الذاكرة طويلة الأمد، وفي الذاكرة المكانية المسؤولة عن التنقل. ويُعد أحد مناطق الدماغ الأولى المعرضة للتلف بمرض ألزهايمر، وغيره من أشكال الخرف.

دراسة جديدة

توفر دراسة جديدة إجابات حول سبب تأثير التربية الإيجابية، بما في ذلك التعبير عن الدفء والدعم. ففي ورقة علمية، نشرت في مجلة PNAS Nexus، سلط باحثون من جامعة بيتسبرغ الضوء على العلاقة المعقدة بين الإجهاد في مرحلة الطفولة - مثل القلق الاقتصادي، أو التعرض للتنمر، أو وفاة أحد أفراد الأسرة - وبنية الدماغ ووظيفته، مما قد يؤدي إلى تدهور الصحة العقلية والرفاهية.

يوضح الدكتور جيمي هانسون، عالم أبحاث في جامعة بيتسبرغ المؤلف الرئيس للدراسة: «هناك عمل كلاسيكي حقًا، حيث إذا كنت متوترًا، فإن الحصين الخاص بك يصبح أصغر، ولكن إذا كنت في بيئة غنية جدًا ومليئة بكثير من أنواع الموارد والتجارب الجديدة، فيمكن أن يكبر الحصين الخاص بك».

ويضيف: «التغييرات في بنية الدماغ لا تأتي دون عواقب، ويمكن أن تؤدي في النهاية إلى مزيد من المشاكل السلوكية، مما يعني أن الناس قد يصبحون أكثر عدوانية بعض الشيء».

تأثير في الأحجام

وجدت الدراسات الرصدية السابقة أن سلوكيات الأبوة والأمومة الإيجابية مثل الدفء والتحقق والاستجابة ترتبط بأحجام الحُصين الأكبر، والنمو المخفف لأحجام اللوزة الدماغية، وأحجام قشرة الفص الجبهي.

واللوزة الدماغية هي نظام عصبي لمعالجة المنبهات المخيفة والمهددة. لكن الأدلة الموجودة في الفضاء العصبي - أي ما يتجاوز الملاحظات الرصدية - كانت «محدودة» وبها «ثغرات».

تجربة وبيانات

في سعيه لكشف الروابط المباشرة المعقدة بين ضغوط الطفولة وأساليب التربية، وتأثيرها على الدماغ النامي، أجرى هانسون مع فريقه دراسة تصوير عصبي شاملة.

ومن خلال الاستفادة من البيانات من شبكة الدماغ الصحية - وهي مبادرة مستمرة تركز على إنشاء ومشاركة بنك حيوي للبيانات من 10000 مشارك في منطقة نيويورك - فحص العلماء صور التصوير بالرنين المغناطيسي وفحوص الدماغ لمجموعة مكونة من ما يقرب من 500 طفل، تتراوح أعمارهم بين 10 و17 عامًا، إلى جانب قياس أنسجة المخ والتحقق من حجم مناطق محددة في الدماغ، بما في ذلك الحصين.

ولمقارنة الأدمغة مع تعرضها للإجهاد، سألوا الأطفال مباشرة عن عدد أحداث الحياة السلبية التي مروا بها، ومدى الضيق الذي سببته لهم كل هذه الأحداث.

التوتر يقلص حجم الحصين

يقول هانسون: «تماشيا مع الأبحاث السابقة، وجدنا أن مزيدا من التوتر في مرحلة الطفولة يرتبط بصغر حجم الحصين».

وأكدت الدراسة أن أولئك الذين عانوا الضيق من الأحداث السلبية، ولكنهم ينظرون أيضًا إلى آبائهم على أنهم ودودون وداعمون، أظهروا تغيرات أقل في بنية الحصين وأي سلوك لاحق مثل كسر القواعد أو العدوان.

بمعنى آخر، أثبتت التربية الإيجابية أن لها تأثيرات وقائية ضد العلاقة بين التوتر والسلوك على المستوى العصبي.

وكشفت الصور باستمرار أن مستويات التوتر العالية كانت مرتبطة بانخفاض حجم الحصين، مما أدى إلى «عواقب سلوكية».

مع ذلك، عندما ارتبطت مستويات التوتر المرتفعة بالتربية الإيجابية، لم تر الدراسة الارتباط بالأنماط السلوكية العنيفة.

الاستجابة

يشدد هانسون على أن الدعم والدفء العائلي يجب أن يكون ملموسا ومفهوما من الأبناء، بمعنى أنه لا يكفي أن يقدم من الوالدين دون أن يتلمسه ويفهمه الأبناء، حتى يعطي نتيجته الإيجابية. ويوضح: «الأمر المثير للاهتمام حقًا هو أن الدراسة لم تجد هذا التأثير الوقائي عند النظر فيما يعتقده مقدمو الرعاية بشأن تربيتهم». بمعنى آخر، إذا قال الوالدان إنهما داعمان وإيجابيان، لكن الطفل لم ينظر إلى الأمر بهذه الطريقة، فلن يكون هناك أي تأثير ملحوظ في عمليات المسح.

ويضيف: «لذا، فإن الأمر يتعلق حقًا بإدراك الطفل اهتمام الرعاية، والتأكد من شعوره به».

ويتابع أن النتائج تؤكد الاهتمام الناشئ في هذا المجال بفهم «التصورات»، والحاجة إلى إعطاء الأولوية لـ«التجربة الفردية» للأحداث عند متابعة مزيد من الدراسات.

دعم الحماية

تثير الدراسة التساؤل بشكل جدي حول كيف يمكن للوالدين أن يكونا أكثر دعمًا لحماية التطور العصبي للأطفال؟.

وهي تجيب: «يمكن للوالدين تقديم الدعم لأطفالهم من خلال استخدام الثناء، وإظهار المودة الجسدية، والتعبير عن الفخر بإنجازات أطفالهم»، كما يقول هانسون.

هذا يعني أن على الوالدين أن يكملا سلوك أطفالهم عندما يستحقون ذلك، ويكونا حاضرين خلال الأوقات الصعبة، ويقابلون أطفالهم على مستواهم العاطفي.

ويضرب هانسون مثلا حول العناية التي يقصدها من حديثه عن حضور الوالدين مع أطفالهم خلال الأوقات الصعبة، إذ يقول: «أفكر في طفل يسقط ويسلخ ركبته في أثناء ركوب دراجته، ويكون أحد الوالدين قادرًا على الاعتناء به بسرعة كبيرة، وإمساكه واحتضانه ومساعدته، ربما على التوقف عن البكاء، أو السماح له بالتعبير عما إذا كان حزينا أو منزعجا».

الثقافة الوالدية الحديثة

في حين قد يجادل البعض بأن التربية الحديثة أكثر تساهلا أو أقل صرامة من الأجيال السابقة، فإن حجم الضغوط في مجتمع اليوم قد يعيق بعض التحسينات الإيجابية، كما يشير هانسون.

ويبيّن: «لقد تطورت التربية الأبوية بالتأكيد مع مرور الوقت، وأعتقد أننا بالتأكيد أكثر حساسية، وأعتقد أننا أكثر دفئًا مما كنا عليه في المتوسط قبل 50 عامًا. مع ذلك، أعتقد أن التوتر قد تزايد بنفس الطريقة».

لذلك، من الضروري الاستمرار في دعم الأسر، وتشجيع ممارسات الأبوة والأمومة الإيجابية، لتعويض تأثير التوتر على نمو الشباب، لأن «هناك عواقب عصبية بيولوجية»، كما يقول.

ويظل الدماغ عضوًا قابلًا للتكيف بدرجة كبيرة، كما يوضح هانسون، مشددًا على إمكانية التدخلات حتى بعد الأحداث العصيبة مع الآباء غير الداعمين.

ويضيف: «هذا لا يعني أنه إذا لم يكن الآباء أكثر دفئًا، وإذا لم يشعر الأطفال باهتمامهم، فإن الأمور تصبح غير قابلة للإصلاح أو مكسورة».

ويكمل هانسون: «قد يتطلب الأمر بعض العمل الإضافي، وبعض الدعم الإضافي، لتغيير أو استبدال بعض تلك التجارب أو تلك العمليات».

الحُصين

- أحد المكونات الرئيسة لدماغ الإنسان.

- يلعب أدوارا مهمة في مسألة التذكر.

- يحتوي دماغ الإنسان على جزءين متكاملين: الحصين المخصوص والتلفيف المسنن.

- يُعد من مناطق الدماغ الأولى المعرضة للتلف بأمراض الخرف.

- في حال تلفه، قد يعاني الشخص انعدام القدرة على تكوين الذكريات الجديدة والاحتفاظ بها.