لماذا في فورة الحماس تشيع على الألسنِ مقولةُ «أمتنا تفوق الأمم شعرا» أو «تفوقهم لغة»؟ كأنَّ تلك المقولة مما اتفقت عليها الأمم، لتؤكد نسيان الذاتية لما هو آخر. إنها تنسى ما يستلزمه من أنَّ صاحبَ هذا القول يُفترض به أن يكونَ عارفًا بالمفضول بكل أبعاده بقدر معرفته العميقة بالفاضل.

أحالني هذا الحديث إلى ذاكرةِ بورخيس حين قال: «أذكر أنَّ غوته كتبَ: كان عليَّ أن أتعاملَ مع أسوأ لغةٍ في العالم: الألمانية»، ثم وضع بورخيس افتراضًا، وهو «أنَّ هذا التفكير مرتبطٌ باللغةِ التي يغالبها الكاتبُ». وغوته -هنا- يَعكِس الظاهرةَ، إذ هو يذمّ الألمانيةَ في مقابلِ اللغات الأخرى، وهذا ما يجعلني أقول إنَّ مقولةَ غوته مع لغته الألمانية علامةٌ على عمقِه فيها، وسطحيته أو جهله في اللغات الأخرى، إذ كُره غوته قد يكون في جوهره حبًا، إذ الألمانيةُ هي التي شَكّلته، ولا يعرف الاعتناءَ والإبداعَ إلا بها، ومع شدةِ عمقِه بها ومكابدته إياها رآها أسوأ اللغات. والسؤال -مع ما يُذكر بأنَّ غوته تعلّم لغات رديفة مع الألمانية- «هل يرى غير الألمانية فعلا؟». ربما هو -هنا- كالحبيبة أو الحبيب حين يرى محبوبه أسوأ الناس، لا لأنه هكذا، بل لأنه لا يُكابِد غيره.

وربما يحضر –هنا- جاك دريدا ليقول: «..والحبُّ عمومًا يمر عبر حبِّ اللغة». إذن نحن أمام ظاهرة من ظواهرِ الذاتية إلا أنها تتخفّى وكأنها -بحد ذاتها- لغة عالمية مستقلة.


هذه الظاهرة المتخفّية تتكشّف أمامنا في عمليةِ الترجمة، بوصفها تأويلًا لازمًا، وأعني أنَّ الترجمةَ والتأويل جاءا -تاريخيا- من جذرٍ واحد في الإغريقية (hermeneia)، وهذا يُذكرني بمقولة: «من الصعب فصل ترجمة التوراة عن تفسيرها»، وهذا قد يعني أنَّ ظاهرةَ تفضيلِ اللغاتِ هي مسألة تأويلية؛ إذ الترجمةُ تتوقّف عند سطوحِ الأشياء، والتأويل يدخل إلى الأعماق. ولما استعصى العلم العميق بكل اللغات في آنٍ واحد، جُعِلَ السطحُ عُمقا، وصُدِّرت الأحكامُ بفاضلٍ ومفضول، ومن ثمَّ سنضطر للقولِ مع هايدغر: «الترجمة ليست حَمل طردٍ من مكانٍ إلى آخر، بل هي ترجمة الفكرِ ذاتِه عبر حمله على تيارٍ رسا قديمًا على ضفافِ اللغة».

ويمكن أن يكون الجاحظُ -أو كما يُسَمّى «الشيخ الأكبر»- أولَ عربي يُحاجِج عن مثلِ تلك الظاهرة دون أن يَتقصّدها كموضوعٍ عضوي؛ إذ له نصُّ في «البيان والتبيين» يَصِفُ به شخصًا اسمه موسى بن سيّار الأسواري، حيث يقول: «وكانَ من أعاجيب الدنيا كانت فصاحتُه بالفارسيةِ في وزنِ فصاحتِه بالعربية، وكان يجلس في مجلسِه، فتقعد العربُ عن يمينه، والفرسُ عن يساره، فيقرأ الآية من القرآن، ويُفسّرها للعرب بالعربية، ثم يُحوّل وجهه إلى الفرس فيفسّرها لهم بالفارسية، فلا يُدرى بأي اللسانين هو أبين».

الجاحظ وصف موسى بأنه من الأعاجيب، وفي هذا محاججة خفيَّة بأنَّ في الأمر شيئا خارقا وليس عاديا. إلا أنَّ الحاكم -هنا- هو الجاحظ، فهل هو يجيد اللغةَ الفارسيةَ لدرجة أن يحكم لموسى أو عليه؟، ومن ثم لا يكون موسى من الأعاجيب؛ لأن الجاحظ -مثله- يُتقِن اللغتين بالتوازي؟ أم هو حكمٌ كحكمِ بعضِ النقادِ على شعرٍ ما وهو لا يجيد كتابة الشعر، وذلك بإضمارِ قواعدَ لما هو جيّد ونقيضه؟، أي أنَّ الجاحظَ يُضمِر في نَصِّه قواعدَ للحكمِ على جودةِ الترجمةِ بين اللغتين بغضِّ النظرِ عن معرفته بهما.

وإن كانَ الجوابُ هذا الأخير، فنحن أمام تحويل العمق إلى سطحٍ بصورةٍ متقصّدة؛ لأنَّ الجاحظَ هو القائل: «..وينبغي أن يكون الترجمان أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها»، والقائل: «..ومتى وجدناه قد تكلَّم بلسانين علمنا أنه قد أدخلَ الضيم عليهما؛ لأنَّ كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها». لهذا، سأفترض إرادته تحويل العمق إلى سطح، وذلك بملاحظة أنَّه أشار تحديدًا للفصاحة، ليحدد جودة ترجمة موسى، وأعني قوله: «كانت فصاحتُه بالفارسيةِ في وزنِ فصاحتِه بالعربية»، فمن لفظة «الفصاحة» يمكن أن نخرج بمعنى يُقارب الصورةَ المتخيلة التي أرادها الجاحظ، ولتكن مقياسًا جاحظيًا للحكم على جودة الترجمة دون الإلمام التام باللغتين.

ولعلّي أجعل هذا موضوعَ المقالةِ القادمة؛ لأنَّ الفصاحةَ متعلقةٌ بالحسّ، ولا تغوص في الأعماق، إن كان ثمة أعماق، فالقارئ إذا لم يُحس بأنَّ الكاتبَ، أيا كانت لغته، جاءَ بنفسِه وتحدثَ إليه بلغة القارئ، فإنَّ المترجم يُثبت نظريةَ الفجوات بين اللغتين، ولا يلزم من هذا ضعفه. وفي هذا يقول شارل لو بلان في كتاب «الترجمة وتاريخها الطبيعي»: «الترجمات التي تقاوم مرور الزمن هي تلك التي تفرض نفسها كما لو كانت نصًا أصليًا».