تناقلت الأخبارُ، أنَّ (براين مويندا) الشابَ الكيني، تَقمّص شخصيةَ محامٍ، فكسب جميعِ القضايا التي أُوكِلت إليه، فتحرك المجتمعُ؛ ليقبض عليه؛ لأنه لم يَدرس المحاماةَ نظاميًّا.

هذا الخبر يفتح جبهةَ النقدِ أمامَ شيءٍ ما؛ إمَّا المؤسسة وقيودها، أو أهمية الشهادة في ذاتِها، أو أمور تختبىء بين سطورِ النَصِّ الاجتماعي وموتِ الإنسان، أو كل ذلك!.

حَرّكَ هذا الخبر في الذاكرةِ أمرين: الأول: ما جرى للناقد السعودي سعيد السريحي، حين سحبت المؤسسةُ منه شهادةَ الدكتوراة؛ لتُبقِي أدواتَ نقدِه وعقله المتوقّد تحت الشكّ الجماهيري، وهذا قد يعني أنها أرادت أن تُقيّد حركتَه الحداثية ونقدَه للخطاب التقليدي في ذاكرةِ المجتمع، أي أن تَكونَ الشهادةُ هي الميثاقُ المبدئيُّ في عقولِ المتلقين؛ كي يَثقوا به، سواءً كانَ ناقدًا أم محاميًا، أم غير ذلك. ألا ترى الناسَ يقولون قبل أن يسمعوكَ: «ما شهادتك؟ ومن أين؟». ولعلَّ هذا ما أدركه سعيد، يومَ أن عَلَّقَ على وَسْم: (أعيدوا الدكتوراة للسريحي)؛ جاعلًا علاقة الشهادة المعنوية بالمادية علاقة تلازم دقيق لا يراه إلا المتبصِّر، كما قالَ المتنبي: «وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ/ فهي الشهادة لي بأني كامل».


وسيكون السؤال: هل المؤسسة في ذاتِها ناقصة، ومن ثمّ مذمتها مِدحة، أم الناقصة هي مؤسسةٌ بعينها؟

سيجيب كلُّ قارئ بحسب اختياراتٍ وجوديّة في سلوكه ورؤاه، لكنّي أزعم أنَّ براين مويندا سيختار الأول؛ فهو يُعَدُّ من الطبقة الدنيا التي يُعَوّل عليها في كشفِ تناقضاتِ الإنسان وهو يقود دفةَ العلم في وضع علامات المجتمع الجيّد!، وأما السريحي -بناءً على تعليقه- فسيختار الثاني، أمّا عبد الوهاب المسيري فقد ذكر -ساخرًا- ما سمَّاه (الأكاديمية السلبية)؛ وهي أن يكتب أحد المتخصصين بحثًا لا يتّسِم إلا بكونه صالحًا للنشر؛ لأنَّ صاحبَه اتّبع مجموعةً من الأعرافِ والآليات البحثية من توثيق، ومراجع، وعنعنات علمية موضوعية!.

وأما الجانب الغربي فيحضر الناقد الفرنسي جاك دريدا نموذجًا لهذه الذاكرة؛ لأنه مثَّلَ رحلةَ الإشكال المؤسساتي الغربي، من أوروبا الكلاسيكيّة إلى أمريكا الحديثة!، ففي فرنسا حوربَ من جامعةِ نانتير؛ إبّان مشاركته في الحركة الطلابية عام 1968، مما عدّه دريدا جزءًا من المناورات السياسيّة الأكاديمية!، وفي مقابل نانتير الفرنسية، وجد دريدا القبولَ من جامعة ييل الأمريكيّة، إلا أنه في عام 1991 طُرِد هو ونظريته من المشهد النقدي الأمريكي، وكأنَّه من بقايا اليهود، وجامعة ييل نازيّة. يحيل الناقد السعودي عبدالله الغذّامي هذه الحملة التطهيريّة، إلى نظرية الجشع الاقتصادي الذي حلَّ محل نظرية نقد الخطاب.

الأمر الثاني الذي حَرّك الذاكرة هو أنَّ فعلَ الشاب الكيني فعلُ شاعرٍ، طردته القبيلة؛ لأنه لم يقل الشعرَ كما تريد، أو هو إنسان ذكيٌّ لكن لم يَسمح له موقعه الاجتماعي أن ينالَ شهادةً من المؤسسة، أو هو لا يرى أنَّ المؤسسة تستحق أن تشهد له بأنَّه محامٍ ذكي، أو أسباب أخرى، إلا أنَّ ثمة سؤالًا يُراوغ كسطرٍ لا يُرى؛ هو ما دور المؤسسة في إنتاجِ الإنسان المحتال بالمعنى الإيجابي؟ قيل قديمًا «عيب الغنى أنه يورث البلادة، وفضيلة الفقر أنه يبعث الحيلة»؛ وبإمكاننا أن نضع مكان (الغنى) المؤسسة ومشتقاتها من فعل الإنسان؛ وقد أضرب مثالًا على ذلك بجاك دريدا مرةً أخرى؛ إذ هو في العرفِ الأكاديمي فقير؛ وعلامة ذلك أنه لما أرادت جامعة كامبريدج تكريمه؛ قال قسم الفلسفة: «إنه ليس منّا، وإنما هو ألسنيّ»، وقال قسم اللسانيات: «إنه ليس منّا». فاضطرت الجامعةُ للتصويتِ العام؛ ففاز تكريمُه بفارقِ نقطةٍ واحدة. وهنا تتجلّى الجامعة كغنيٍّ بليد لا يَرى أبعد من خُطَطِه المعمليّة، ويتجلى دريدا بفضيلةِ الفقر؛ ليفضح الأكاديميّة، ويتحول إلى محتالٍ يُراوغها ويتكسّب منها في إنتاجِ معانٍ متعددة تُؤكِّد بعضَ متعلقات نظريته التفكيكية كسلطةِ المعنى الواحد، والدلالة المضمرة الكاشفة لسيرورة المؤسسة وخطابها.

أما فعل الشاب الكيني كشاعرٍ، فالشِعر بالنسبةِ للأدبِ ككائنينِ؛ أحدهما يُشْبِه فعله فعل الطبيعة كما هي، والآخر فعل الحضارة، وبيان ذلك: أنَّ الأدبَ محكومٌ بسلطةِ المجتمع، ثم سلطة الثقافة التي طَوّرها المجتمع، وهذّبها. إنه محكوم بالنظام، وخبرة الأكاديمية، وفعلها. لهذا فالأديبُ متصالح مع قوانين المؤسسة، بل مكرِّس لها، ويضربُ بعصاها، وقد يكون صانعًا لها. ألا ترى أنهم يقولون عن الأدب هو «الذي يتأدَّب به الأديب من الناس، سُمِّيَ أدبًا؛ لأنه يَأدِبُ الناس الذين يَتعلمونه إلى المحامد، ويَنهاهم عن المقابح. يأدبهم، أي: يَدعوهم»؟. أما الشاعِر فهو الذي يُعوَّل عليه بأن يجعل المؤسسةَ تلفُّ الحبلَ حولَ رقبتها، وتأكل نفسَها إن لم تجد ما تأكله، وحين نقول (شاعر) فليس المراد -هنا- ما قيَّدته المؤسسةُ بقيودِها وزرعتْه في ذهنِ السامعِ عن لفظةِ (شِعر)، بل هو تلك الشحنة الإبداعية التي تَبني من كلِّ نصٍ مِجدافًا خلّاقًا لمواجهةِ أمواج التيار الكوني، وتغيير مساره. لهذا فإنَّ السعيَ لتحويل الأجناس الكتابيّة لطاقةٍ شِعرية، مَهمّةٌ جليلة وجميلة.

التفاتة:

من المفارقات التاريخية العربية أن يتحرك الشرعيون المُحدَثُون للدفاعِ عن الشهادةِ الأكاديمية؛ بوصفها الميثاق الوحيد للحديثِ في الدين.