في وقت يضع فيه معظم الناس الكذب في خانة السلوك غير اللائق، فإن كثيرين بمن فيهم أولئك الذين يصنفونه على هذا النحو يمارسونه بشكل أو بآخر، وهو ما تشير إليه الكاتبة والروائية الليبية وفاء البوعيسي، التي تشير في مقالة نشرت في دورية «أفق» إلى أنه «ثمة مبدأ أخلاقي متجذر يعتبر الكذب سلوكًا غير مشروع، كما تميل الغالبية إلى نبذ الكذب وكل أشكال الخداع. لكنّ الشخص العادي، وإن كان لا يقتل ولا يسرق ولا يغتصب، إلا أنه غالبًا قد يكذب».

سلوك بشري

لا يعدو الكذب أن يكون سلوكًا بشريًا، تتم ممارسته بأشكال وصور مختلفة، فهو سائد بين الأصدقاء مثلا، ويأتي أحيانًا تحت عنوان «المجاملة» وربما كذلك «التهذيب»، وربما يمارسه الطالب مع معلمه فيما يتعلق بالفروض المدرسية، والزوج أو الزوجة مع شريك الزوجية بشأن مكان وجودهم أو قدرتهم المالية، كما قد يكذب زملاء العمل، والقائمة تطول إذا ما احتاج الإنسان أن يتخيل سيناريوهات يكون الكذب فيها واردًا.


تجريم التكذيب

تجزم البوعيسي أنه ليس من الوارد أن يتم تجريم كل تلك الأكاذيب وغيرها، وتؤكد أن «الكذبَ مُجرَّم بالفعل في عدد من السياقات، مثل: حنث اليمين، والإدلاء ببيانٍ كاذب، وشهادة الزّور، ونشْر الشائعات والأكاذيب، وانتحال الشخصيّة، والاحتيال، والتنكُّر، وتزوير المستندات، وتزييف علاماتٍ تجاريّة، أو تمثيلٍ كاذب لشخصيّةٍ ما، وإصدار صكوك وسندات ائتمانية وأسهم مستندية بلا تخويل، وسكّ عملة مزيّفة، والافتراء على الغَير. لكنّ المشرِّع لا يُجرِّم أكاذيب أخرى كالغيبة والنميمة، والكذب بشأن العمر والوضع الماديّ بين الأفراد، وإخفاء الشيخوخة أو التشوّهات بعمليّات تجميل، وادّعاء الحبّ من أحد الجنسَيْن للآخر، والوعود الكاذبة التي تُطلَق يوميًّا بالمئات لآخرين».

مسؤولون يمارسون الكذب

لا تقتصر ممارسة الكذب على الأشخاص العاديين، وكثيرًا ما حفلت الروايات والأعمال الفنية بصورة نمطية متكررة عن كذب المرشحين للمجالس البرلمانية أو المحلية، أو حتى كذب المرشحين لقيادة رأس الهرم في بعض الدول التي تختار مسؤوليها بالانتخابات على الأخص حين يغدقون في إطلاق الوعود للناخبين خلال الحملات الانتخابية ثم سرعان ما يتبين أنهم كذبوا فيها.

وترى البوعيسي أنه «في كثير من الدول يمارس مسؤولو إنفاذ القانون أنفسهم الكذب بشكل منظم، مثلًا: الأطبّاء والممرّضات يكذبون على المرضى للتخفيف عنهم، ويكذب السياسيّون والدبلوماسيون لاغتنام ميزة في مفاوضات السياسة الخارجية، وكواجب متأصل تجاه موكليهم، يكذب المُحامون بشكلٍ قانونيّ عبر إخفاء معلومات قد تضر بزبائنهم، كما تكذب الحكومات على شعوبها بشأن صفقاتٍ أَبرمتها مع دول أو جماعات مُعادية».

وتعتقد أن «الشخص العاديّ يروي بضع أكاذيب مهمّة في اليوم، وغيره يروي أكثر بكثير من ذلك، لتفادي المتاعب، أو حفظ ماء الوجه، أو لتجنب إيذاء الآخرين. بما يُشير إلى أن الكذب يعمل بشكل جيد في المجتمع، بما لا يستحق، ولا يستلزم العقاب عليه».

موضوع صعب التعامل

يثير الكذب كثيرًا من الجدل، ما يجعله موضوعًا يصعب التعامل معه فقد يراه البعض مقبولًا في بعض السياقات، فيما لا يعد كذلك في سياقات مغايرة.

وتشرح البوعيسي «لدى التعامل مع جريمة انتحال شخصيّة سياسية أو دينيّة، فإن انتحال تلك الشخصيات في عمل سينمائي، لا يجعل من المنتحل طرفًا في جريمة بدافع الحق في التعبير. ومثله التنكر، فالتنكر في زي شرطي وحمل شارة وسلاح في برنامج للكاميرا الخفية، هو عمل كوميديّ بدافع الترفيه، وما يقال عن جريمة التلفظ بعبارات خادشة للحياء العامّ، سينهار أمام مئات النكات البذيئة التي ينتجها المجتمع كل يوم بدافع التسلية، ونشر الأكاذيب، إذ لا يُعاقَب عليه حين يأتي على شكل فانتازيا تحمل إسقاطات على الواقع السياسي بدافع النقد. وتجريم الخداع سينتفي في علاج المرضى النفسانيين بالوهم والإيحاء بدافع مُمارَسة المهنة. ولا محلّ لجريمة تهديد وتضليل بحقّ الأمّ التي تخوِّف طفلها بجنّية أسنان تختبئ بين أضراسه لتنشر فيها السوس، إن هو لم ينظّف أسنانه يوميًّا بدافع التوجيه باستعمال الخيال».

مناط الضرر

تؤكد البوعيسي أن «الكذب في حدّ ذاته، ليس ما تتم مقاضاته، بل الفعل المرتبط به، والذي يحمل نيّة التسبب بضرر جسيم، ويحدث الضرر بالفعل. من هنا فقد جُرّمت أكاذيب في عدد من السياقات بسبب خطورتها على المجتمع، لكنّها في سياقاتٍ أخرى، كانت مباحة لفائدتها للمجتمع، حتّى أنّها تُستخدم في بعض المِهن، مثل: صناعة الدراما والكوميديا والتجميل وصناعة كرتون الأطفال والأعمال الروائيّة وعلاج مشكلات الصحّة النفسانيّة والتوجيه الأسريّ. ومن هنا فإنّ المهمّة صعبة في تحديد الخطّ الدقيق بين الأكاذيب المقبولة وغير المقبولة».

شرط الضرر

يبدو تجريم الكذب من عدمه يدور في إطار ما يسببه من ضرر، سواء أكان ضررًا جسديًا على الفور أو حتى ضررًا متعلقًا مثلًا بتآكل الثقة والتعاون بين الناس.

ويرى جون ستيوارت ميل، «وهو فيلسوف واقتصادي بريطاني» أن شرط الضرر، هو المبدأ الحاسم الوحيد الذي يُبرر انتهاك الحرية، وحيث لا يُمكن تجريم الكذب الذي لا يفي بشرطه ذاك. إنّ مبدأ الضَّرر، هو مبدأ تشريعي صالح، ويعمل كنقطة انطلاق مفيدة، إلّا أنّه ليس كافيًا، حيث يجب أن يكون حجم الضَّرَر كبيرًا، وأن يتجاوز حدّ الإزعاج والاشمئزاز والضيق العادي، ويتمّ التعبير عنه قانونًا بمفهوم «الضَّرَر الجوهريّ».

مساحة الرفاهية

بينما يحتجّ Bryan H. Druzin وهو أستاذ مشارك في القانون في الجامعة الصينية في هونج كونج حيث يقوم بتدريس الفقه والأخلاق، وقد شغل مناصب تدريسية في كلية كينجز لندن وجامعة برونيل لندن، بأنّ أحد أغراض القانون الجنائي هو كفالة الرفاه العام للمجتمع، ويعلل بأن هذا أحد أسباب تجريم القيادة عند حدّ سرعة معيّنة، ومنْع التدخين قبل البلوغ، مع مُمارسته في أماكن محدَّدة. فالمشرِّع لم يمنع القيادة على الرّغم من مخاطرها، لكنّه حدَّد السرعة القصوى تجنُّبًا للحوادث. كما لم يُحظر التبغ على الرّغم من مخاطره، لكنّه سمح به بعد البلوغ فقط، وفي أماكن بعَيْنها، لأنّ المدخّنين يعيشون في مجتمعٍ تعدّدي يُقدّم الصحة على أي أمرٍ آخر. وبهذا، اتّخذ المشرِّع قرارًا واعيًا بالسماح للأفراد بمتابعة أنشطة تعد ضارة، لأنّ الحظر التامّ لها قد يؤدّي إلى خرْقِ الرفاه أكثر بكثير من السماح بتلك النشاطات.

وبالتالي فإن «تجريم الكذب إجمالًا، وإن كان يفي بواجب أخلاقي، إلا أنه يعدّ تدخلًا قمعيًا مُفرطًا في المجال الخاصّ، حين تُحَاكَم ملايين المحادثات الشخصيّة والتفاعُلات الاجتماعيّة التي لا حصر لها، وستتحوّل الدولة إلى دولةٍ بوليسيّة. لكنّ من الحِكمة أيضًا فسْح المجال للقانون المدني للنظر في أكاذيب ما، وملابساتها، ليقرِّر تعويضًا للطرف المتضرِّر أو تقديم اعتذارٍ له».

كذب ملهم

ترى البوعيسي أن هناك «حاجة ماسّة للكذب الذي يبعث كلّ ذلك الإلهام في الاختراعات، كتصميم روبوتات تحمل هويّة إنسان لأداء مهامٍّ صناعيّة خطرة أو لإرسالها إلى الفضاء، وفي الأعمال الترفيهيّة القائمة على الابتكار والأساطير وقصص الخيال العلميّ والفانتازيا السياسيّة، وفي صناعة النكتة ومقالب الكاميرا الخفيّة».

كما تعتقد أن «الحاجة للكذب أكثر إلحاحًا لملء خيال الأطفال بحكايات الجدّات المُختلقة لزرْعِ القيَم فيهم، وبرامج الكرتون التي تتحدّث فيها الحيوانات إليهم، لترشدهم لاحترام البيئة، وأنّ الحفاظ على الحياة، هي مسؤوليّتهم المستقبليّة».

وظائف تناسب الكذابين

لعل من الطريف أن هناك دراسات أجريت بينت أن الكذابين قد ينجحون في وظائف بعينها، حيث تبدو هذه الوظائف متناسبة مع قدراتهم، وربما يشير البعض إلى أن بعض الكذب قد يناسب مضمون وظيفة ما، وتشير دراسة إلى أن من بين الأسباب التي تجعل الكذب لا يزال قائمًا في مجالات وظيفية بعينها، وجود اعتقاد بأن من يجيدون عملهم في هذه المهن، هم أولئك الذين يتبنون مواقف «مرنة» حيال مسألة قول الحقيقة من عدمه.

وأجرى الباحثان الأمريكيان بريان سي جونيا وإيما إي لافين دراسة كشفت عن أن الناس يعتقدون أن من يكذبون يؤدون عملهم بشكل أفضل في الوظائف التي تركز على بيع سلعة أو خدمة معينة والترويج لها.

وعادة ما تشيع صور نمطية عن مهن مثل مندوب المبيعات أو المصرفي، تفيد بأن أصحابها يركزون بقوة على السعي لبيع السلعة أو تقديم الخدمة دون أي اعتبارات أخرى. على الرغم من أنه على صعيد الممارسة العملية، يمكن أن يكون شاغلو وظائف مثل هذه شديدي الاهتمام بالآخرين بشدة، وأن يتسم العاملون في مجالات ذات طبيعة مختلفة مثل تلك المرتبطة بـ «تقديم خدمات الرعاية للمسنين» مثلا، بالأنانية المفرطة.

وفي إطار الدراسة، طلب الباحثان من 500 من دارسي إدارة الأعمال وغيرهم تصنيف مهن بعينها، فأظهرت الدراسة أن أفراد العينة يعتقدون أن الأشخاص الذين أظهروا قدرة على الخداع سيكونون أكثر نجاحًا إذا عملوا في الوظائف التي تركز بشكل أكبر على «توجه البيع»، ومن ثم جعلوا لهم الأولوية في التوظيف. فمثلا اختار 84% من المشاركين توظيف أشخاص مخادعين لأداء مهام بارزة في مهن تولي اهتمامًا أكبر لتوجه «التركيز على البيع»، فيما وقع اختيار 75% على من يتصفون بالصدق والأمانة لتولي مهام أقل شأنًا في المهن نفسها.

ورغم أن هذه النتائج مثيرة للاهتمام فإنها غير حاسمة.

خداع مستمر

في كتابه «لماذا نكذب: الجذور التطورية للخداع والعقل اللا واعي» يرى الفيلسوف دافيد ليفينجستون سميث أن «الطبيعة غارقة في الخداع؛ فالفيروسات تخدع الجهاز المناعي للكائنات التي تسعى لغزو أجسادها، وتستخدم الحرباء أساليب التمويه والتخفي لخداع الحيوانات المفترسة. والبشر ليسوا استثناء من كل هذا، بما يشمل ممارستهم للكذب والخداع في أماكن عدة».

والكذب حسب هؤلاء ليس دومًا مظهرًا سلبيًا، فمثلًا لا يرغب أي مسافر أن تقول له المضيفة على متن الطائرة إن عليه الشعور بالقلق من المطبات الجوية! ولا يرغب الزبون أن يصارحه النادل في المطعم بأنه يحتقره أو يستخف به! ولا يرغب المريض بأن يخبره الطبيب بأنه لا يعبأ كثيرًا بمعالجته!

سياقات يجرّم فيها الكذب

ـ حنث اليمين

ـ الإدلاء ببيان كاذب

ـ شهادة الزور

ـ نشر الشائعات والأكاذيب

ـ انتحال الشخصية

ـ الاحتيال

ـ التنكر

ـ تزوير المستندات

ـ تزييف علامات تجارية

ـ تمثيل كاذب لشخصية ما

ـ إصدار صكوك وسندات ائتمانيّة وأسهم مستنديّة بلا تخويل

ـ سك عملة مزيفة

ـ الافتراء على الغير

مواضع قد لا يجرّم فيها الكذب قانونًا

ـ إخفاء الشيخوخة أو التشوّهات بعمليّات تجميل

ـ ادّعاء الحب من أحد الجنسين للآخر

ـ الوعود الكاذبة التي تُطلَق يوميًا بالمئات لآخرين

مسؤولون يمارسون الكذب ويعد مقبولا منهم

ـ أطبّاء وممرّضات يكذبون على المرضى للتخفيف عنهم

ـ مضيفة تهدئ روع ركاب طائرة تتعرض للمطبات الهوائية

كذب مقبول ومباح

ـ انتحال شخصية في عمل سينمائي

ـ التنكر في زي شرطي وحمل شارة وسلاح في برنامج للكاميرا الخفية

ـ علاج المرضى النفسانيين بالوهم والإيحاء بدافع مُمارَسة المهنة

ـ تهديد وتضليل الأم لطفلها بجنّية أسنان تختبئ بين أضراسه حتى ينظف أسنانه