الإطار الفكري الذي اعتدنا أن ننظر عبره إلى تاريخ الحضارة العربية الإسلامية هو إطار سياسي مادي خال من الفكر، وإذا ما وُجد فكر فإنه محصور في المنظور الاستشراقي؛ أي محصور في شخصيات ابن تيمية، والغزالي، وابن عربي من جانب، وابن سينا، والفارابي، وابن رشد، وابن خلدون، من جانب آخر، وحتى هذه الشخصيات تم انتقاء جوانب معينة فقط من فكرها، وقُدم على شكل جزر متناثرة لا يجمعه أي سياق معرفي، والعجيب والمعيب أن بعضًا من المؤلفين والدارسين العرب للحضارة العربية الإسلامية يلوكون نفس الدراسات الاستشراقية، ولا يخرجون خارجها بأي نتائج جديدة، بل يعيدون ويكررون ما ذهب إليه المستشرقون فقط، ولكن بصياغات مختلفة.

وظل كثيرًا من تاريخ الفكر للحضارة العربية الإسلامية مغيبًا.

يقول الفيلسوف الإسباني كروث إيرنانديث، في كتابه الموسوعي، الذي جمعه من أكثر من خمسة ألف مصدر، تاريخ الفكر في العالم الإسلامي: «إنني لم أسمع عن كتاب عن تاريخ الفكر في العالم الإسلامي يعالج كل ذلك الفكر، منذ بدء نزول القرآن، وحتى يومنا هذا، ويصدق هذا القول على الأقل على ما كتب بالألمانية، والعربية، والفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية، والبرتغالية والفارسية».


لقد كان الدور الأكبر في خلق هذا الإطار الفكري عن الحضارة العربية الإسلامية الخالي من الفكر لتيار من المستشرقين، فهم من أعادوا كتابة تاريخنا منذ القرن السابع عشر إلى مطلع القرن العشرين، وقد أغرقوا المكتبات بعشرات آلاف الكتب، فوفقًا للدكتور محمود زقزوق فإن عدد ما ألفه المستشرقون في قرن ونصف ستين ألف كتاب، والتي كان أغلبها -مع استثناءات قليلة- يصب في قالب هذا الإطار الفكري الشائه، بينما كنا في تلك الفترة قراء ومتلقين فقط.

صاغ المستشرقون فهمهم لتاريخنا عبر إطارهم الفكري عنا، ولا يخفي بعضهم رأيه المتطرف في أن العرب بطبيعتهم جنس غير قادر على إنتاج المعرفة، وهذا التحيز القاتل جعلهم بكل تأكيد يصورون الحضارة العربية الإسلامية حضارة خالية من الإبداع الفكري.

وللأسف كان الدور الثاني منذ بدايات القرن الماضي لتيارات جماعات السلطة باسم الدين في القرن الماضي، وانتقوا من هذه الصورة الناقصة أصلا التي رسمها المستشرقون الجزء الذي يهمهم، وهو جزء التاريخ السياسي وصراع العروش، وبهذا حُجب الإرث الفكري العظيم والمشرف للأمة، وبالتالي نتجت أجيال لا تعرف من تاريخها إلا الصراعات السياسية، ولا تشعر بأي انتماء أو ارتباط بفكر، وعلم الحضارة التي أسست المنهج العلمي والعلوم التي نراها اليوم من فلك وفلسفة ورياضيات وطب وغيرها.

وأصبح النشء اليوم لا يكادون يعرفون شيئًا عن كلام الأشعري ولا جراحة الزهراوي، ولا روبوتات الجزري، ولا عبقرية ثابت بن قرة، والقائمة طويلة جدًا في مسيرة علمية فكرية مشرقة دامت أكثر من عشرة قرون، شملت تقريبًا كل العلوم والفنون من الفلسفة والفلك إلى الطبخ و الزخرفه.. ولكن في الوقت نفسه يعرف السواد الأعظم تفاصيل معارك المسلمين وحروبهم وصراع العروش، معززًا بتفاصيل كثيرة من الشعر والنثر والروايات الطويلة.. وإذا قال قائل إن هذا تاريخ يجب حفظه مثل أي أمة أخرى قلنا ولكن في حجمه الطبيعي، وليس على حساب الجوانب الأخرى من التاريخ.

في الختام ما قاله كروث إيرنانديت ينطبق على زمانه، إنما كُتبت لاحقًا كتبًا جيدة متخصصة، ولو أنها لا تزال قليلة جدًا، ولعل من أهمها ما كتبه علي سامي النشار في الفلسفة والمنهج العلمي، وما كتبه جورج صليبا في الفلك، وما كتبه سعيد فودة في الكلام، وما كتبه رشدي راشد في الرياضيات، ولا يزال المجال خصبًا والدعوة مفتوحة للجميع لدراسة الفكر والعلم في الحضارة العربية الإسلامية وإحياء روحها في الأمة.