هذا هو المقال الـ18 من مقالات «آلية عمل الصحوة اليوم»، وفيه مزيد إيضاح لبعض ما أجمل في المقال السابق، حيث أشرت إلى أن بدايات التأسيس الحقيقي لما يعرف بـ«الصحوة» في إطارها العام، الذي أعتبره تأسيسًا ثالثًا للجماعة كان في عام 1973، بعد التأسيس التجريبي -إن صح التعبير- في 1921، ثم التأسيس الأول الرسمي في 1928، ثم التأسيس الثاني على يد سيد قطب في 1964، الذي أسهم في تعزيزه بشكل كبير ما يعرف بـ«المكتب التنفيذي لقيادات الإخوان المسلمين في البلاد العربية»، والذي شُكل في 1954، أثناء زيارة الهضيبي لسوريا، وقبل سجنه بأشهر قليلة، وبدأ أعماله في 1957، ليقوم مقام مكتب الإرشاد العام للجماعة في مصر، في حال إيقاف المرشد العام وأعضاء مكتب الإرشاد، وكان «المكتب التنفيذي» في البداية -أي 1957- بقيادة شكلية لرئيسه مصطفى السباعي، وقيادة فعلية لنائبه عصام العطار، ويتشكل من رئيس، ونائب رئيس، وأمين عام، وعضوية القيادات العليا للتنظيمات الإخوانية في الأقطار العربية، وحينما تسلم العطار منصب المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا، بعد وفاة السباعي، أضحى رئيسًا «للمكتب التنفيذي»، ومحمد عبدالرحمن خليفة، المراقب العام للإخوان المسلمين في الأردن، نائبًا للرئيس، وفتحي يكن، الأمين العام للجماعة الإسلامية في لبنان (التنظيم الإخواني اللبناني)، أمينًا عامًا، وقد أولى هذا المكتب عناية فائقة للداخل السعودي، وركز على إطلاق يد التنظيم الإخواني السوري في السعودية، وكان يمثل القطر السعودي في المكتب حمد الصليفيح.

والصحوة جاءت في أوائل السبعينيات؛ نتيجة اتفاق بين الحكومة المصرية والتنظيم الدولي للجماعة أو بمعنى أدق التنظيم المصري خارج مصر بقيادة سعيد رمضان وآخرين من الجماعة، وعلى ضوء هذه الاتفاقية خرج الهضيبي وأفراد الجماعة من السجن، تدريجيًا، ثم قام الهضيبي بإعادة ترتيب أوراق الجماعة، فنشطت الجماعة في السعودية بشكل أكبر في عام 1973، وانتقلت الإدارة في السعودية من السوريين إلى المصريين، وأبعد على إثر ذلك محمد سرور من السعودية إلى الكويت، بأمر تنظيمي، لا علاقة للحكومة السعودية وقتها به، من أي وجه من الأوجه، بخلاف ما يروجه السروريون، وعلى رأسهم الزعيم، والأب الروحي للتنظيم محمد سرور بن نايف زين العابدين.

وعند استلام عمر التلمساني زمام الجماعة الإرهابية في 1976، ومع توسع العمل، وجدت الجماعة أنه من المناسب أن يتسلم «الإخوان السعوديون» القيادة من المكلفين سابقًا من قبل الهضيبي، بعد فترة من الفراغ القيادي الظاهري في الجماعة، والذي استمر لأربع سنوات تقريبًا، وكان من يدير الجماعة وقتها «حلمي عبدالمجيد» أو «المرشد الخفي»، كما كان يطلق عليه، وقيل لجنة مكونة من ثلاثة أشخاص، وهذا التطوير المستمر والتغيير لم يكن مقتصرًا على السعودية فحسب، بل كان في كل بقعة من العالم للإخوان فيها موضع قدم؛ ولذلك أجد أنه من الخطأ إطلاق مصطلح «الصحوة»، ليقتصر الأمر على حالة تيار الإسلام السياسي وتنظيماته في السعودية، حيث تم التعارف في الدراسات والأبحاث والمقالات على أنه إذا ذكرت «الصحوة»، دلت على الحركة الإسلاموية التنظيمية والتيارية في السعودية، وما أظنه صوابًا أنها صحوة عامة، صنعت بطريقة معينة، ولذلك فرقت في بعض ما كتبت، بين (الصحوة الخاصة) وهي الخاصة بالسعودية، و(الصحوة العامة) وهي الصحوة التي تعني عودة نسبة من المسلمين في العالم أجمع إلى التدين وفقًا لمفاهيم واجتهادات شرعية معينة، أسهمت الجماعة الإرهابية في صياغتها، وصناعتها عبر مجموعة هائلة من الأدبيات والمناشط، وأسهمت في بلورتها كذلك مجموعة من الانشقاقات التنظيمية، بسبب الخلافات النظرية والحركية داخل الجماعة، إضافة إلى ما تقتضيه ضرورات ما شق من الجماعة أو انشق عنها قصدًا لتولي مهام معينة، نفيًا للتهمة عنها، وحفظًا لصورتها من أن تهتز أمام الدول والمجتمعات المحلية، ابتداء من جماعات التكفير والقتال، إلى حالات «الليبرو إسلاموية» المضلِلَة، إلى تبني الليبرالية الفاقعة بمفهومها العرفي أو الشعبي اجتماعيًا في المشهد العربي.

وقد أشرت كذلك في المقال السابق إلى خرافة العودة الدينية بعد نكسة 67، وكون تلك العودة كانت من أبرز أسباب انتشار الصحوة، فلم تكن «الصحوة» نتيجة الهزيمة الروحية بعد نكسة 67، ولا علاقة لها من أي وجه بحرب 67، ربما كانت هناك عودة للتدين عند «الإسرائيليين» بعد 67 وبعض أجزاء العالم المسيحي والمجتمعات الصغيرة اليهودية داخل الدول الأوربية والأمريكية، ولكن في العالم العربي لم يكن ثمة عودة دينية بسبب النكسة، بل كان الأولى ربط عودة التدين و«الصحوة» بانتصارات أكتوبر 73، وهي السنة التي استأنفت فيها الجماعة أعمالها بشكل فعلي على الأراضي العربية، بعد حظر طويل، وهذا القول -أي الصحوة الدينية بعد نكسة 67- تمت صياغته ثم نشره بشكل واسع، ليوحي بأن ثمة توجهاً شعبياً عاماً للانخراط في تيارات الإسلام السياسي، وتنظيماته.

ومن أجل هذا التوجه الشعبي، بات من أهم ما تعمله الجماعة الإرهابية هو توسيع القاعدة الشعبية، وتكثير السواد، فأصبح من صلب عملها، اقتحام كل المجالات التي لها تماس مع المجتمع ومكوناته المختلفة؛ لتكوين قاعدة شعبية، تتسع ولا تقف إلا إذا استوعبت المجتمع بأكمله، وعلى الرغم من أن هذا الأمر مستحيل، فإنهم لا يقفون عند حد، فهم دائمو الحركة والعمل في هذا السبيل، ويبدأ الأمر وفق مستويات ثلاثة في مسألة انخراط الأفراد في الجماعة أو التيار، فيبدؤون بالملتزم، وهو الشخص الذي يحوز على العلامات المظهرية الصحوية الكاملة، ثم من يلتزم بمظاهر تدينية أقل، ثم من يخلو مظهره من علامات التدين، ولكنه يتوفر على حرارة الشعور الإسلامي.

ولجأت الجماعة الإرهابية إلى أسلوب توسيع القاعدة الشعبية مبكرًا، حيث رأت الجماعة ومرشدها البنا، في المؤتمر الخامس، الذي عقد في الثاني من فبراير 1939 بسرايا (آل لطف الله) بالزمالك في القاهرة، بمناسبة مرور 10 سنوات على تأسيس الجماعة الإرهابية، أنه لا سبيل للوصول إلى الحكم إلا من خلال القاعدة الشعبية العريضة، وإن تمكن أحد من الوصول السريع فلا مانع بشرط ألا يورط الجماعة في البداية، ولذلك لا تجد الإخواني يفصح عن السبب الحقيقي وراء الحرص على دعوة الناس، والذي هو تجنيد أكبر قدر ممكن لصالح الجماعة بأي درجة كانت، حتى يسهم ذلك بتكثير سواد الجماعة وكوادرها ومؤيديها، والمتعاطفين معها.

ومن هذه الخلفية يأتي سعي الصحويين السعوديين إلى السيطرة على مؤسسات التأثير في المجتمع السعودي، في مجالات الاستثمارات، والاستشارات الاقتصادية، والأسرية، والاجتماعية، ومجالات المحاماة، والمجالات البنكية، ومكاتب المحاسبة المالية، والنشاط الإعلامي، هذا إلى جانب السيطرة على الثقل الأكبر للصحوة وهي القطاعات التعليمية، والخيرية، والإغاثية، والأوقاف.