فالمتحمي ارتبط مع البحر منذ أكثر من 80 عامًا اكتشف خلالها أسراره وخفاياه وتمرس على التعامل معه، وبدأت العلاقة بينهما منذ أن كان في سن العاشرة حين كان يرافق والده ليساعده في الصيد فتعلّم مبكرًا المهنة وبعد أن اتقن أبجديات نزول البحر انطلق إلى كسب رزقه بمفرده.
الجلب والسنارة
«الوطن» التقت في مركز القحمة كبير الصيادين والعائد من رحلة الموت إبراهيم عبده المتحمي، الذي روى قصته مع البحر قائلا: ما عرفت نفسي إلا وأنا أمارس مهنة صيد الأسماك وحينما كنت صغيرًا رافقت والدي لميناء القحمة وخرجت معه في رحلات صيد بقارب (هوري) خشبي تلك الأيام كانت أكثر خوف وصعوبة ومشقة للصيد والصيادين وقتها كان الصيادين قليلين وكانت وسائل السلامة والاتصالات معدومة إلا أن المهنة كانت وفيرة الرزق، وخلال رحلتي مع البحر تعلمت الكثير كصناعة الشباك والصيد بالجلب والسنارة وغيرها، وشيئًا فشيئًا تطورت الأمور وامتلكت «فلوكة» تعمل بالماطور وتنوعت رحلات صيدي إلى جزر بعيدة لكسب رزقي اليومي وعلى هذا الحال إلى الآن، وأشار إلى أنه استطاع ومن خلال مهنة الصيد من الزواج وبناء أسرة من دخل صيد الأسماك وبيعها مستطردًا: لكن في السنوات الأخيرة ضاق البحر بسبب المراكب الكبيرة لشركات الصيد التي تسحب كل ما في البحر بشباكها واصفًا ذلك بأنه طمع حرم الصيادين بركة البحر وصيده الوفير.
أنواع مختلفة
يضيف المتحمي: أذكر وأنا في رحلة صيد كنت قد رميت الجلب (خيط وسنارة) وانتظرت نصف ساعة بعدها شعرت بحركة قوية للخيط وعندها هممت بسحب الجلب لاحظت ثقل الشيء الذي أسحبه وأخذت أردد أهازيجي المعتادة في رحلات صيدي وأدعي ربي واستمر الأمر قرابة الساعة ما بين شد وجذب إلى أن أمسكت بها وتبين أنها سمكة كبيرة جدًا في الوزن، أصبحت أنموذجًا يحتذى به بين الصيادين.
ومن الأهازيج التي يرددها شيخ الصيادين: (طلبتك يا ربي يالله تكرم العبد يالله ومن رزقك تكرمنا يالله وبحق رسولك يا الله صيد سمك ورزق وفير يالله)، وبين أنه عمل في صيد الكثير من الأنواع المختلفة من الأسماك المعروفة والقرش كما عمل أيضًا في صيد (الكسيف) وهو السمك المالح المعروف والمفضل في القحمة ومنطقة جازان والذي يعد من الأسماك العربي والبياض التي ترش بكميات كبيرة من الملح وتجفف في الشمس لمدة من أسبوع إلى شهر تقريبًا قبل أن تطرح بالأسواق.
مواقف مرعبة
أكد المتحمي أنه عاش طيلة 8 عقود وتعرض للكثير من المواقف المرعبة في البحر آخرها رحلته التي كاد أن يفقد حياته فيها وسط الأمواج والتي رواها قائلًا: انطلقت من المرفأ الساعة السادسة صباحًا ليستقر بي الحال وسط البحر بموقع للصيد وظللت إلى ما كتب الله لي من رزق بعدها هممت بالعودة وعند محاولتي تشغيل الماطور المولد تعطل فجأة وبقيت بمفردي ولكن لحسن حظي لم أسحب الخطاف الذي يثبت المركب، وحينها أدركت أنني في ورطة كبيرة وظلت تائهًا تتلاعب بي الأمواج والرياح الشديدة وأنا في الظلام الحالك وعندها تذكرت مقولة كنت أسمعها من الأولين بأن القارب مصنوع من لوح ومسمار وعقدة وبقيت أردد هذه الدعوة (يارب يا حافظ الأرواح في الألواح أن تحفظني بحفظك يا كريم)، وكذلك أردد أهازيجي المعتادة لأتشجع بها ولا أيأس من رحمة ربي وظللت على وضعي يومين حتى وصول الجهات المعنية واستدلوا على مكاني وأنقذوني وكان السبب في نجاتي الله ثم الخطاف وصلاتي ودعواتي في عرض البحر الهائج.
صراع مع الموت
وأشار إلى أن يوميات البحر ولياليه هي صراع مع الموت من أجل البقاء وكسب الرزق اليومي لكثرة المواقف الصعبة وظلام لياليه التي يعيشها الصيادين فلا يدري متى تكون رحلة مسيرة والعكس صحيح فربما تنقلب إلى رحلة صعبة وشاقة ويلقى حتفه فيها، وذكر المتحمي إنني خرجت من البحر نهائيًا بعد أن قضيت 80 عامًا ممتهنًا صيد الأسماك، وبعد أن كتب الله لي السلامة من الحادثة الأخيرة ومعلنًا تركه النزول إلى البحر والصيد وعاد لقضاء كثير من وقته في البر ممارسًا حياته وأغلب وقته داخل كوشك يبيع الأسماك التي يشتريها، وكما أن كبر السن أجبره على مغادرة البحر نهائيًا تاركًا مركبه الذي يقف متحدثًا للوطن وهو بجانبه مستذكرًا أيام صباه وشبابه ولا ينسى التكريم الذي ناله من أمير منطقة عسير تركي بن طلال، وكذلك فرع وزارة البيئة والمياه والزراعة بعسير على قصص كفاحه اليومية مع البحر طيلة الثمانين عامًا الماضية من صياد وإلى أن تقاعد كبيرًا للصيادين.