يحاول الغرب بدوائره المختلفة التحكم في آلية التوجيه الفكري والعقائدي في بعض المجتمعات الإسلامية، وذلك عن طريق طرح مشاريع ومبادرات ذات مقاصد سياسية ليست بريئة.

ومن بين تلك المشاريع الفكرية التصوف الفلسفي، فقد بدأ هذا المشروع يحتل مكان الصدارة في الإستراتيجيات العالمية ومؤسسات البحث العلمي، ومراكز الاستشراق وأقسام الدراسات الشرقية، والدوائر الإعلامية والسياسية، فأصبح جزءًا من إستراتيجية متكاملة تستهدف إحداث تغيير جذري في حركة الدين تقوم على إضفاء المشروعية على التصوف الفلسفي وعولمته.

ولقد حظي هذا المشروع الفكري باهتمام كبير في أوساط النخب الغربية المؤثرة والمؤسسات الأكاديمية ومراكز الاستشراق، فالفكر الغربي (براغماتي لا تحركه المبادئ ولا يؤمن بالفكرة الإنسانية الجامعة بقدر إيمانه بذاته ومصالحه)، وقد ظهر التصوف الفلسفي مؤخرًا في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.


يقول مارتن لجنيز (الذي أعجبني في الحركة الصوفية هو أنني كأوروبي وجدت خلاص روحي ونجاتها في التصوف)، وقد تبنت التصوف الفلسفي مؤسسات علمية، ومراكز دراسات كمؤسسة راند الأمريكية، فقد نشرت (راند) -وهي بالمناسبة مؤسسة فكرية مؤثرة في صناعه القرار الإستراتيجي في الدوائر الأمريكية- في 2005 تقريرًا يوصي بعقد مؤتمر دولي لإنشاء مركز دولي يرصد ما سمته (الظاهرة الإسلامية).

وفي2007 تفتق ذهن راند عن تبني الفكر الصوفي لمواجهة الظاهرة الإسلامية، فالمشرعون في راند يرون أن أصحاب المناهج الفلسفية والكلامية أقدر من غيرهم للتصدي لهذه الظاهرة، ذلك أن مفهوم الدين عند الغرب ما هو متأثر بالنزعات الفلسفية المادية، أو الديانات القديمة، أوالثقافة المتعلقة بالروحانيات.

لذلك فإن مصطلح دين عندما يطلق في الثقافة الغربية يراد به إما الديانات السماوية أو الديانات السماوية وغير السماوية أو المبادئ الأخلاقية والإنسانية، ففي الأول يطلق على اليهودية والنصرانية والإسلام، على اختلاف المضامين العقدية، وفي الثاني يطلق على معتقدات تاريخية كالبوذية والهندوسية والجينية والديانات الفارسية والمصرية والبابلية القديمة.

ولضعف الحصن الثقافي الغربي -كما يقول الدكتور محمد الفاضل اللافي أستاذ العقيدة ومقارنة الأديان في المعهد الأوروبي في باريس- أمام التحديات المادية الرهيبة وافتقار الإنسان الغربي للمقومات الدينية كدفاعات روحيه أمام زحف التيار المادي المدمر، ليصبح لا وعي الإنسان الغربي يتقبل كثيرًا من النفحات (الدينية/ الفلسفية) الوافدة من أقصى القارة الآسيوية، فتجد بعض تلك الفلسفات مدخلا في وسائط التثقيف الغربي، فقد رأينا في الولايات المتحدة الأمريكية مجموعات أصدقاء كريشنا وشيفا ومجتمعات الصداقة العالمية.

وقد لاحظ شفيتزر هذه المأساة حين قال: (إن حضارتنا تمر بأزمة حادة، ويرد الناس هذه الأزمة إلى الحرب، ولكن الحرب وما يترتب عليها ليست إلا ظاهرة من ظواهر انعدام الروح الحضاري الذي نجد أنفسنا فيه، وانعدام هذه الروح راجع إلى عدم التوازن بين تقدمنا المادي وتقدمنا الروحي، إن أكبر خطر في رفع العناصر المادية فوق العناصر الروحية هو ما يؤدي إليه من أن كثيرًا من الناس عن طريق هذا الانقلاب الكلي في حياتهم بدلا من أن يصبحوا أحرارًا يتحولون إلى أناس غير أحرار).

والتي تكشف عن خلل كبير في التصور الغربي لماهية الدين، فيصبح التيار أو المذهب دينًا، ولذلك يصر الغرب على تثبيت الفكر الصوفي الفلسفي كعقيدة، وهنا تبدو واضحة نسبة الخلط الفكري الفلسفي السياسي الذي يحف هذه الدعوة شديدة الخطورة،

لقد أشكل مدلول الفكر الصوفي على الكثيرين، وداخلته إشكالات تاريخية ومنهجية وعقدية، مما يستوجب الوقوف على حالة هذا الفكر من حيث المستند العقائدي.

فالإسلام لا يرفض التصوف المشروع، بل يعد التصوف من أقسام الدين، ولكن سلك التصوف طريقًا غير طريق الإسلام، وتشعب وتنوع، وداخلته أخطاء وانحرافات، وانتسبت إليه جماعات ضلت باسمه وأضلت، فرغم أن المتصوفة يتخذون من الإسلام منطلقًا لأفكارهم وآرائهم، إلا أنهم تأثروا ببعض المذاهب والفلسفات الأخرى كالمذاهب الهندية والفلسفة اليونانية، فالمتصوفة لا يعبأون بالمصدر الذي يستقون منه ما دام أن هذا المصدر يعبر عن ذواتهم فكرًا وسلوكًا وعاطفًيا.

ومهما حاولنا أن نحدد الحالة الصوفية ما بين التصوف الشرعي أو ما يزيد عليه، إلا أن التصوف في بعض حالاته تجاوز حد التصوف الشرعي، وقد دخلت عليه بعض الزوائد التاريخية سواء كانت فلسفية أو عقائدية بوذية أو مسيحية أو هندوسية، ولم يعد التصوف يقف عند حد الزهد والورع والتنسك والعبادة، وإنما دخل أطوارًا آخرى.

ولذلك يرتبط التصوف المشروع في التصور الإسلامي بمنهجية الزهد والورع، وهو بهذا المعنى لا يعني الانفصال والعزلة عن مجريات الحياة.