تداول مغردون ومثقفون حديث أدونيس في مهرجان تويزا 2023 بالمغرب حول زيارته للسعودية بشيء من الانتقاد والعتب، ودارت أبرز الانتقادات حول تجاهل أدونيس للتنوع والثراء في المشهد الثقافي السعودي، وتركيزه على أمور اعتبرها البعض تفصيلات تجاوزها السعوديون منذ زمن كحرية المرأة والانفتاح على المختلف.

ربما تكون المشاهدات التي ذكرها لافتة بالفعل لمن يزور السعودية للمرة الأولى، إلا أننا توقعنا أن نلمح انطباعية العقل المفكر حول الجدلية التي اشتغل عليها عبر تاريخه الفكري الطويل، وأشير هنا إلى التصور العربي التقليدي حول مناطق تركيز وتأثير الفعل الثقافي.

لسنا هنا في وارد شخصنة حديث أدونيس، الذي أرى أنه كان عفوياً وحسن النوايا بلا شك، لكنني أطرح معضلة ثقافية أزعم أنها جديرة بالتفكيك، تتمثل في استمرار النمطية الإقصائية التي خلقت فجوة كبيرة بين السعوديين والخليجيين بشكل عام والمثقف القومي العربي.


تقدم الأطروحة القومية التقليدية نفسها كممثل حضاري أوحد للهوية الثقافية العربية، متعمدة عزل شعوب الجزيرة العربية الذين يصنفون ضمن هذه الفكرة كأصحاب ثقافة نفطية بترودولارية طارئة.

أدونيس الكبير قدراً وارتحالاً، والعابر إلينا من بوابات الميثولوجيا السحيقة شعراً وفكراً وإحساساً فات عليه ولا أعلم كيف! ملاحظة أن السعودية بكيانها الشامل كانت وما زالت وستبقى القائد الحقيقي على أرض الواقع للمشهد الفكري العربي.

السعودية وليست أي دولة أخرى، وهذا واقع تاريخي وليس رأياً شخصياً.

عندما أصبحت السعودية دولة دينية، صار الإعلام العربي محافظاً، وارتدت الفنانات الحجاب واعتزل الفنانون وصاروا وعاظاً، وشح الإنتاج وانتشرت أفلام المقاولات، هذا على الصعيد الثقافي فقط. أما على الصعيد السياسي فقد رأينا زعيماً (بعثياً) يكتب على علم بلاده «الله أكبر»، ليضفي على نظامه القومي صبغة دينية، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

ولكن حينما اختارت السعودية طريق الانفتاح الثقافي منذ منتصف التسعينيات، عندما بدأ البث الفضائي في العالم العربي وكان السعوديون رواده في ذلك الوقت، ازدهر الحراك الثقافي، ودارت مجدداً عجلة الإنتاج الفني، واتسعت مساحة السجالات الفكرية وانتشر فقهاء الواقع.

العرب ينحازون للسعودية (ثقافياً) سواء أدركوا هذا أو لم يدركوه، والسبب في رأيي ليس النفط ولا المال، بل الانتماء الديني والعرقي والمرجعية السياسية المستقرة والمتفردة. ولطالما نجحت هذه العوامل في إقناع العرب بأنهم أمة واحدة قديمة.

وأعتقد أن هذه هي معضلة النظرية القومية العربية التي حاولت لأسباب سياسية فك الارتباط بين السعودية والمشروع الحضاري العربي، بتقديم بديل مشوه هو مزيج من الشعارات الليبرالية التي زرعها الاستعمار الغربي، وخلائط من الشكليات الدينية التي خلفها الاحتلال العثماني ومضافاً إلى هذا اللغة العربية.

في هذا السياق أثنى أدونيس على العثماني الذي افتتح القرن بدماء أجدادنا وآلامهم، معتبراً أنه أفضل من جميع الزعماء العرب الذين اختتموا القرن!

لقد دأب القوميون على التنظير حول الثورات والتغني بشعارات الحرية وحقوق الشعوب، لكن عندما تطرح عليهم ثنائية العثماني المحتل الغازي والسعودي العربي المناضل الذي وحد أرضه وأقام دولته من اللاشيء، فهو في هذه تحديداً ينحاز للعثماني ويمجده. هكذا رغم أنف التاريخ والجغرافيا!

لا يمكن لأي فكرة بهذا التناقض والهشاشة أن تصمد أمام التجربة الثقافية السعودية الأصيلة الناضجة التي تنتقد نفسها وتصلح أخطاءها، وتتطور بهدوء وضمن إمكاناتها. وتقوم بدورها الإقليمي الريادي على أكمل وجه. وإنه لمن دواعي الصدق والعمق الثقافي أن تكون قراءة المثقف محايدة مرحلية وشمولية دون مواقف مسبقة.

أي أدونيس.. لم نكن أمواتاً، ولم نخرج من القبر. نحن الذين انقلبنا على إلهات الطين، واخترنا الغيب، وحيث إن شواهق العلا أطلقت فيك روح الشاعر الوثني، فإنني أرجو في المرة القادمة أن تتعمد بمائنا المقدس كيما يتحرر فيك العرفاني الصوفي ولا يزال الشعر معنا، ولا يزال الحلم..

ونحن أكثر اخضرارا من البحر

نحن أكثر فتوة من النهار

والشمس بين أصابعنا نرد أخضر

فوق الهاوية سنبني

ولسوف نظل في فوهة المستقبل..