صارت الأفكار اليوم تخضع لمعايير ظرفية حسب منطق المصالح، فمعظم الأفكار تقوم على بنية مادية ناظمة للفكر إلى درجة يصعب فيها التعرف على المقاصد لما يفكر فيه.

وذلك بسبب فقدان التوازن المعرفي، وغياب الثوابت المنهجية التي تهب التيار الفكري نسقًا معرفيًا يعين على فهم التناولات الفكرية.

ففي زمن الثورة التكنولوجية أصبح للمسألة الواحدة عشرات الوجوه، وصار عدم اليقين هو المعيار. فالأفكار اليوم يعاد تدويرها وتدور حول نفسها، ثم تدور بعيدًا عن واقعها، مما يحدث خللاً في شبكة العلاقات الاجتماعية تؤدي إلى اضطراب الأسس والمعايير الاجتماعية. ولكي نحصر أنفسنا ونتجنب التفريع فإن القضية بوضوح حين يقرر مفكر هو مالك بن نبي بأن الأفكار الرصينة تعبر عن نضج الإنسان، وتطور تفكيره وإدراكه لشفرة التعامل المجتمعي.


فعندما يفتقد المجتمع أفكاره الفاعلة تتحلل شبكة علاقاته، عند ذلك يواجه أزمة.

فثراء المجتمعات في أفكارها والتي تنتسج منها شبكة علاقاتها وتحقق الانسجام الاجتماعي.

فعندما ننظر إلى رؤية 2030 كيف نجحت لدينا، وتفاعل معها المجتمع وأخفقت في أماكن أخرى من العالم، وذلك لوجود شبكة علاقات قوية ومتماسكة ومتلاحمة، تمازجت وتشكلت في بوتقة متفردة وكانت غاية في الانسجام الروحي والفكري والأخلاقي والاجتماعي، وصل فيها المجتمع إلى درجة عالية من الكمال والتكامل.

فالمجتمعات الحديثة تركز بشكل عام على حركة الأفكار في المجتمع، وأسلوب التناول وملء الفراغ الاجتماعي بشبكة علاقات متماسكة وقوية وفاعلة، فقد يتصدع مجتمع ما وينهار بدون مقدمات نزاعات أو صراعات أو حروب، وذلك لتفكك شبكة علاقاته الاجتماعية.

وقد حدث ذلك تاريخيًا لدى الإمبراطورية الآشورية، فرغم ثرائها فإنها تهاوت وسقطت، ويحدث الآن في بعض الدول كأفغانستان والصومال والسودان وليبيا.

فالأفكار التي تدفع بالحركة الاجتماعية إلى الوجود أو السقوط، تبدأ قبل الفعل بسنوات وربما بأجيال. ولذلك فإن تحديد اللحظة أو التاريخ الذي تنطلق فيه أي حركة اجتماعية أمر صعب، ولكن الباحث الاجتماعي يستطيع من خلال دراسة الأفكار تحديد اللحظة التي تتفاعل فيها الأفكار مع الواقع، وقد يتم ذلك التفاعل بسرعة قصوى خاصة إذا كان المجتمع يعاني خللًا في شبكة علاقاته الاجتماعية.

فإذا ما نظرنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وما حدث في الستينيات وما بعدها، حين ثار السود ضد أساليب العنف العنصري والذي كان عنفًا موجهًا في الغالب من جانب المتعصبين البيض ضد السود، والتي نتج عنها أحداث الشغب العنصري التي زلزلت أركان المجتمع الأمريكي، لأن أمريكا تتحرك في محتوى اجتماعي مختلف عن الدول الأخرى، ولأن الأمريكيين لم يطبقوا نظامًا واقعيًا فعالًا محكمل لنظام شبكة علاقات المجتمع كما رأيناه في المجتمع السوفييتي سابقًان ونراه اليوم في المجتمع الروسي والصين.

ولذلك فإن أي مجتمع ما ينهض اليوم ويتطور لأن شبكة علاقاته الاجتماعية قوية ومتماسكة، ولكن إذا ما تفككت شبكة علاقاته يصبح عاجزًا عن أداء وظائفه.

ولذلك لا يمكن الحديث عن مجتمع فاعل إلا باستناده على شبكة علاقات فعالة تضمن تماسكهن فالاعتقاد بإمكان تطور مجتمع ما بدون شبكة علاقات قوية يدحضه الواقع.

ولعل جوهر المشكلة - على حد قول الدكتور بدران بن لحسن - تكمن في [الأنا] الفردية، فيختفي الإنسان الذي يعي موقعه ودوره الاجتماعين ويحل بديلًا عنه الفرد الذي ينشغل بالأنا الفردية، والمتذرع بفكر الاستعلاء الذي يرى نفسه فوق حدود المجتمعن وحينها لا يفكر الإ في إثبات ذاته في مقابل الآخرين.

فالأنا الفردية تخل بتوازن المجتمع، وتصيب شبكة علاقاته بالاضطراب والاختلال وتشتت الطاقات الوطنية وأساليب التوحد المجتمعي، وعند ذلك يفقد المجتمع توازنهن فتنعكس بوصلة الانتماء، فيتحول التنوع من الثراء المجتمعي إلى الفراغ الاجتماعي.

فكلما تغلبت النزعة الذاتية على النزعة الاجتماعية تحللت شبكة علاقات المجتمع، وزاد النزوع إلى الأنانية.

وإن كنت أذهب مع الدكتور عبد الله الطويرقي إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي ألقت بظلالها على الواقع والنسيج الاجتماعي، وفرضت نفسها على الوعي، فتأثرت بذلك حركة الأفكار وشبكة علاقات المجتمع، وذلك لكونها غير قادرة على فهم الواقع، نتيجة عجزها عن الفهم والتغيير في ظل المتغيرات.

فقد خلقت وسائل التواصل الاجتماعي مجتمعات افتراضية موازية للمجتمعات الواقعية، تتخطى حدود الزمان والمكان ومكونات الهوية. ولذلك فإن سطحية خطاب التواصل الاجتماعي، وعدم جديته يثير بعض التوجسات والشكوك من وجود أطراف تدفع إلى إظهار الواقع في صورة مشوهة، وذلك من خلال تمرير خطاباتها عبر واجهات متعددة.

فقد تشكلت القناعات الحديثة بأن التكنولوجيا ليست مجرد وسائل لتيسير الحياة فحسب، وإنما لها مخاطرها التي لابد من التحسب لها يدخل في تفسير المجتمعات، وفي التغيير في شبكة علاقاتها.

فبلغة علم الاجتماع عندما يصل مجتمع ما إلى درجة عالية من الكمال، فإن شبكة علاقاته الاجتماعية تصل إلى حد الانسجام الاجتماعي. فالتربية الاجتماعية تحفظ للمجتمع شخصيته وتوازنه وانسجامه الفكري ونسيجه الاجتماعي.

وإن كانت ظاهرة التداخل الثقافي مع الثقافات المختلفة ليست جديدة علينا، إلا أنها - كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري - كانت تداخلات محصورة في التصورات العلمية والفلسفية، ولكن التداخل الذي تحكمه وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، تداخل في القيم، والأذواق، والأخلاق، والنوايا وأنماط السلوك، والتي يجب أن نخضعها لنسق عقلي نؤمن به.