مقالي اليوم لم ينقدح في ذهني إلا مؤخراً، والتردد في الاختيار هو السبب، وبعد استخارة الله، سبحانه وتعالى، عزمت على الكتابة في الموضوع الذي أنا بصدده، وبصورة تناسب حال الزمان، وحالنا فيه ومعه، وداخله وخارجه.

ما زال قليل، وربما كثير من الناس، وفي كل مكان في الكرة الأرضية تقريباً، يشتكون من تصنيف الناس لهم، والأسوأ من ذلك، وحسب الشكوى، هو تعميم الأخطاء عليهم، فضلاً عن التصنيف، وهذا كله يندرج تحت عشق عسكرة الناس، وتجييشهم، وبكلمة أوضح: «الطائفية»، وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الشكوى، أجد في أيامنا هذه، فرصة كبرى للخلاص من «الطائفية»؛ الظاهرة، والمستترة، ودليل هذا النفي، أن يحس الإنسان أنه لم يعد للتمييز السلبي أي وجود، وأنه محترم ومقدر، بغض النظر عن جنسه وجنسيته، أو مذهبه ومعتقده، أو أي فوارق وخلفيات، وأن التعايش، و«القلبي» منه بالخصوص، سائد بالفعل، لا بالقول فقط.

اليوم، الفرصة من عند الله، عز وجل، مواتية لترك تعميم الأحكام على الناس، وفرصة للبحث عن الحقائق وممارسة التفكير النقدي، قبل نعت الناس بالأوصاف، أو التوهم والتخيل، أو الدخول في بواطنهم، وفرصة لتعزيز الاحترام المتبادل، وفرصة للدعوة على التغلب على «الطائفية»، وفرصة لأن يتصدى أصحاب وجهات النظر الواسعة، للتصنيف والتعميم، الذي يتبناه أصحاب وجهات النظر الضيقة، والمندسين، والذين لا يؤمنون بأن الناس شركاء في الخير، كذا الشر لا قدر الله تعالى، وعلى الصادقين في إيمانهم، والمخلصين لأوطانهم، التكثيف من التواصل، والإكثار من التحاور، والتركيز على المشتركات، والسعي المستمر في التوعية بأهمية تغيير القناعات الخطأ، والقضاء على «الطائفية»، قضاء حقيقياً؛ ظاهراً وباطناً، كما كان سائداً بين كبار القوم، في تلك الأيام الخوالي.

يذكر الإمام صلاح الدين الصفدي -من علماء القرن الثامن الهجري- في الجزء الثالث عشر من كتاب «الوافي بالوفيات»، أحد أكبر كتب التراجم على الإطلاق، كما يذكر الإمام شمس الدين الذهبي -من علماء القرن ذاته- في الجزء التاسع من كتابه «تاريخ الإسلام» أن: «خلف بن المثنى قال: كان يجتمع بالبصرة عشرة في مجلس، لا يعرف مثلهم في تضاد أديانهم ونحلهم: الخليل بن أحمد [سني]، وابن محمد الحميري [رافضي]، وصالح بن عبدالقدوس [ثنوي]، وسفيان بن مجاشع [صفري]، وبشار بن برد [خليع ماجن]، وحماد عجرد [زنديق]، وابن رأس الجالوت [يهودي]، وابن نطيرا [متكلم النصارى]، وعمرو ابن أخت المؤيد [مجوسي]، وروح بن سنان الحراني [صابئي]، فيتناشد الجماعة أشعاراً».

أختم بأني وإن كنت أعلم أنه لم يسلم الخالق ولا المخلوقون من الإساءات، فإن هذا لا يعني إجازة النيل من الناس بسبب اختلافات الأيديولوجيات والاتجاهات والأفكار والعقائد والمذاهب وغير ذلك؛ فالطبيعي في حركة التاريخ حدوث التداول والتدافع بين الناس، ولا يصح في دنيا اليوم أن يعاني أحد من الاضطهاد الطائفي، مؤكداً أن التعصب الطائفي لا يقتصر على المسلمين ومناطقهم، بل هو موجود في المسيحية كذا اليهودية، وفي غيرها من الأنظمة الفكرية، وحل هذا الصراع الأعمى المقيت، يكمن في إتاحة البيئة الإيجابية الحرة المنضبطة للناس، والكف الحقيقي عن التهميش والاستئصال، والتصنيف والتعميم.