اعتاد الناس إذا انتقلوا من القرية إلى المدينة، للعمل أو الدراسة، على البحث عن سكن قريب من أفراد من أقاربهم وجماعتهم، حتى انتشرت في المدن أحياء خاصة بكل قبيلة أو جماعة.

ومع تطور الحياة لم يعد ارتباط الفرد بجماعته يحقق له الدعم، بل صار البُعد عن مجاورة الجماعة، والسكن بعيدا عن أحياء الأقارب هدفا لتحقيق الخصوصية والاستقلالية بالدرجة الأولى.

فهل أصبح الارتباط الوظيفي أهم من الارتباط الأسري والقبلي؟ وهل أصبح الوجود بين الجماعة عبئا على الفرد؟ وهل أصبح شعور الاستقلالية والبُعد عن التزامات وضغوط الجماعة أهم من الارتباط بهم؟.


أحياء قديمة وارتباط بالجماعة

يعود حرص الفرد قديما على مجاورة جماعته في السكن، خاصة عند انتقاله من منطقته الأصلية، إلى أسباب عدة، منها حاجة الفرد للانتماء إلى جماعته في المناطق البعيدة والجديدة عليه، بهدف التكيّف مع المكان في ظل انغلاق كل جماعة على أفرادها، ويعد ذلك تحقيقا لأعلى معايير السكن والاستقرار، لكن نتج عنه عدم تجانس الجماعات المنتقلة مع جماعات المناطق الأصلية، وانتشار الأحياء المخصصة لهم في المناطق الأخرى مثل حارة العتبان وحارة الحروب في مكة المكرمة، وحارة القصمان في الرياض، وحارة البخارية في المدينة المنورة، وغيرها من الأحياء، وفي الأحياء القديمة بالطائف هناك حي للشيابين وحي للجعدة وحي للبياشة وحي لأهل الجنوب وحي للثبتة، وغيرها كثير.

ومع امتداد الزمن، واختلاف الأهداف، وازدياد الاحتياجات والمتطلبات، اختلفت هذه المعايير، واتجهت نحو منحى يجعل تتبع الفرد لجماعته، والسكن بالقرب منها أمرا أخيرا في قائمة الأولويات، بل مستبعدا، لتأتي معايير أخرى مادية من شأنها أن تحقق استقراره النفسي، وبدأ يراعيها في اختيار السكن، ولا شك أن تتبع هذه المعايير جعل هناك تجانس بين الأفراد، وزاد من قدرة الفرد على استيعاب وقبول الثقافات والبيئات المختلفة.

المعايير الحديثة

يشير عضو جمعية الاقتصاد السعودي، عبدالحميد العمري، إلى المعايير الجديدة لاختيار موقع السكن، والتي تكشف عن اهتمامات الأفراد المختلفة، ويقول عنها: «وفقا لتطورات العصر الراهن، ولارتفاع تكلفة تملك السكن أو حتى الإيجارات، إضافة إلى التغيرات الكبيرة التي طرأت على حياة الأُسر والأفراد على حدٍ سواء، تحوّلت كثير من العوامل التي تؤثر في خيارات رب الأسرة أو الفرد لمقر سكنه، ونوع وحجم ذلك السكن. وقبل التطرق إلى المحددات التي أصبح رب الأسرة أو الفرد الباحث عن مقر لسكنه يركز عليها، لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم الاختيار تجاوز السكن بحد ذاته لأوسع من ذلك، حيث وصل إلى اختيار المجتمع أو البيئة المحيطة به التي تلبّي احتياجات أو رغبات رب الأسرة أو الفرد، وهي بالتأكيد تختلف تماما عما كانت عليه في عقودٍ زمنية ماضية».

ويضيف «العمري»: «يأتي عامل «تكلفة» التملك أو الإيجار في مقدمة تلك العوامل، حيث لا يتجاوز استقطاعه (شهريا أو سنويا) من 40 إلى 50% من صافي الدخل، ليتمكن المتملك أو المستأجر من مواجهة مصروفات معيشته الأخرى، والادخار للمستقبل إذا توافرت له الفرصة.

العامل الثاني أن يكون في منطقة لا تبعد كثيرا عن مقر العمل، وتزداد أهمية هذا العامل في المدن الكبرى التي تعاني زيادة الازدحام في الطرق صباحا أو أغلب فترات النهار، وقد تتراجع أهمية هذا إذا ما تنوعت وسائل النقل مثل بدء عمل المترو في مدينة الرياض، الذي سيسهم في تخفيف حالات الازدحام، ومن ثم يتيح للفئات العاملة مرونة أكبر وخيارات أوسع في اختيار موقع السكن.

العامل الثالث: حجم ونوع المسكن، سواء لرب الأسرة أو للفرد العازب، فمع تضاؤل حجم الأسرة، مقارنة بالعقود الماضية، وتأخّر سن الزواج، سواء للذكور أو الإناث، إضافة إلى ارتفاع أسعار العقارات وإيجاراتها، وارتفاع فواتير الكهرباء والمياه، وغيرها من الخدمات، تشكّل مفهوم حديث لدى أسر وأفراد المجتمع السعودي يلعب دورا رئيسا في اختيار حجم ونوع المسكن، ويأخذ بالاعتبار كل تلك الأبعاد. وقد يذهب الفرد العازب (ذكر - أنثى)، خاصة لمن يعد دخله الشهري أعلى من المتوسط، إلى اختيار سكن تتوافر فيه خدمات أعلى من غيره من المساكن التقليدية، ويكون أقرب من حيث الخدمات المتوافرة إلى الخدمة الفندقية!، وقد يفضّل المجمعات السكنية التي توفر أندية رياضية وأنظمة حماية.. إلخ.

مع التطورات المتسارعة التي بدأت تشهدها الحياة المعاصرة ستذهب أذواق وتفضيلات الأسر والأفراد في شأن اختيار السكن إلى ما هو أبعد من مجاورة الجماعة، وفي وقت لاحق ستكون أبعد مما أصبحنا نشاهده اليوم، وهو أمر طبيعي مرتبط بالتغيرات التي لا ولن تتوقف في مختلف شؤون الحياة المعاصرة، وما تأتي به من مستجدات».

تضاعف عدد السكان

يبيّن الكاتب بالشأن الاجتماعي، محمد العرفج، حصيلة من الأسباب لعبت دورا أيضا في ابتعاد الفرد بالسكن عن جماعته عبر العقود الماضية، حيث يقول: «لمعرفة أبعاد هذا البُعد والتفرّق في مجاورة السكن بين الأقرباء والجماعة والقبيلة لا بد من قراءة تاريخ التعداد السكاني في السعودية وفق عقود متفاوتة، وجدولتها وفق ثلاث مراحل. كما لا ننسى الاعتبارات الاجتماعية والوظيفية الأخرى.

ففي المرحلة الأولى، التي استمرت حتى نهاية الثمانينيات، عُرِفَت بقلّة عدد السكان مع صغر المساكن، حيث كان عدد المواطنين قليلا، إضافة إلى أن البيوت المنتشرة آنذاك كانت بيوتا شعبية صغيرة ومتلاصقة، لدرجة أن الحارة الواحدة والحواري المجاورة من غير الجماعة الواحدة كانوا يعرفون بعضهم بعضا جيدا بالأسماء والأعمار والاهتمامات، حيث بيّنت الهيئة العامة للإحصاء أن عدد سكان المملكة العربية السعودية جاء في 1394 للهجرة/1974 للميلاد «7009466» نسمة، وهذا العدد يشمل المواطنين والمقيمين، وهو ما يفسّر سبب وجود أحياء جاء سكانها من القرى النائية، واستقروا في حي بعينه، للاهتمام المشترك والاستئناس، ولكي يصل إليهم من ينشد ويسأل عنهم.

أما المرحلة الثانية فقد بدأت منذ التسعينيات حتى منتصف الألفية، وعُرِفت بازدياد في عدد السكان إلى الضعف، مع كبر عدد وحجم المساكن، تحسبا لنمو الأبناء واستقرارهم داخل المسكن نفسه بعد الزواج والإنجاب. ففي 1413للهجرة/1992 للميلاد بلغ عدد السكان في المملكة «16948388» نسمة، وفي 1425 للهجرة/2004 للميلاد بلغ عددهم «22678262» نسمة، وهو ازدياد مرتفع، وهنا رأت الجماعة أنهم بالإمكان أن ينقسموا على عدد من الأحياء، فبعضهم وجد ضالته في أراضي داخل الأحياء القديمة أو مخططات وأحياء جديدة قريبة يبني فيها مسكنه الكبير، وهو عبارة عن فيلا، حيث انتقلت غالبية السكان من البيوت الشعبية إلى الفيلات، وأصبحوا إما في أحياء قريبة، بحيث يتم الوصول إلى الجماعة في وقت أطول، ولكنه ليس بذلك الطول، أو أنهم ابتعدوا أكثر بسبب غلاء الأراضي إلى 3 أضعاف الأحياء القريبة من أحياء الجماعة.

أما المرحلة الثالثة فهي كثرة السكان، وارتفاع وبُعد وكثرة المساكن. ففي 1431 للهجرة /2010 للميلاد، بلغ عدد السكان «27136977» نسمة، وفي 1438 للهجرة /2017 للميلاد بلغ عددهم «31742308» نسمات، وهو اختلاف كبير في عدد السكان الذين كانوا في البدايات يسكنون البيوت الشعبية المتجاورة، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى الفيلات في الأحياء القريبة أو إلى ما كان يظنون أنها أطراف المدينة، إذ إنه هنا أصبحوا إما أن يرجعوا إلى ما يشبه البيوت الشعبية، وهي الشقة داخل المدينة، والقريبة من جماعتهم أو عملهم، أو أنهم يسكنون الفيلات في أطراف نائية بعيدة عن تلك التي كانت أطرافا ذات يوم، ومن هنا أصبح الأقرباء والجماعة متفرقين كثيرا، هذا مع الأخذ في الاعتبار التضخم الذي حصل في أسعار الأراضي والمساكن، وحظي بالفرصة من كان في يده السيولة، أو راتب ثابت يستطيع من خلاله شراء ما يريد عن طريق السهولة الحاصلة الآن في الاتفاق بين وزارة الإسكان والبنوك والشركات العقارية».

تفرق يسبب الانسجام

يؤكد الأخصائي الاجتماعي، محمد الحمزة، أن البُعد عن مجاورة الأقارب في السكن هدف لدى الأفراد، لتحوّر نمط الفرد، مما جعل تحقيقه المعايير الاقتصادية في السكن أهم.

ويقول: «ابتعاد الناس عن مجاورة الجماعة أصبح هدفا بالدرجة الأولى لتحقيق الخصوصية والاستقلالية، والانغماس في البيئات المختلفة أسهم في جعل المجتمعات أكثر انفتاحا على بعضها بعضا، فمن بين العوامل التي أصبح الفرد يراعيها في اختيار سكنه المجتمع والأمان، حيث يهتم كثيرون بالسكن في المناطق التي تتمتع ببيئة آمنة، وحالة اجتماعية متناغمة تتيح فرص التعارف والتعاون والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية في أجواء مختلفة».

ويضيف «الحمزة»: «في الوقت الذي كانت فيه العائلة تحرص على السكن بالقرب من عائلتها الممتدة، ومن الأقارب والأرحام، نجد أن هذا النمط بات قابلا للتحور والتغيير، وأسهم في ذلك ظهور عوامل اجتماعية جديدة تؤثر في اختيار مكان السكن للعائلة السعودية، بناءً على الظروف الشخصية والاجتماعية والاقتصادية، وأصبحت العائلة في السعودية تنظر للسكن بناءً عليها، وباتت تعطيها أولوية أهم من السكن بجوار الجماعة، ومن بين هذه العوامل:

الموقع: يعد الموقع من أهم العوامل التي ينظر إليها الشخص عند اختيار السكن في السعودية، حيث يفضل كثيرون السكن في المناطق القريبة من مراكز الأعمال والمدارس والمستشفيات والمراكز التجارية، وغالبا لا تكون بجوار الجماعة.

معيار التكلفة: يعد السعر من العوامل الرئيسة التي ينظر إليها الشخص عند اختيار السكن، حيث يسعى كثيرون إلى العثور على السكن الذي يتناسب مع ميزانيتهم، ولا شك أن ميزانية أفراد الجماعة تختلف، إذ يختار الفرد السكن المتوافق مع ميزانيته، ويكون بالقرب من الخدمات المناسبة له».