في عام 1095 ميلادي كتب حجة الإسلام أبو حامد الغزالي كتابه «تهافت الفلاسفة» ردًا على الفلاسفة الذين حاولوا تضليل الناس بخلط الرياضيات والمنطق التي عظم صيتها في ذاك الحين بآرائهم في الإلهيات لإيهام البسطاء أن اليقين في الأمرين متساو، يقول الغزالي: «وأمّا الرياضيات، فلا معنى لإنكارها، ولا للمخالفة فيها، فإنّها ترجع إلى الحساب والهندسة، وأما المنطقيات فهي نظر في آلة الفكر في المعقولات، ولا يتفق فيه خلاف به مبالاة»، ويقول أيضا «لأنّهم يستدلون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية ويستدرجون ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة عن البراهين، نقيّة عن التخمين، كعلومهم الحسابية لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية»، ولذلك كتب كتابه تهافت الفلاسفة، والذي أورد فيه تناقضهم في عشرين مسألة، والغزالي بين تهافت الفلاسفة وليس الفلسفة مثل ما يروج خصومه.

واليوم أمامنا نوع مشابه من المضللين يجيرون إنجازات العلم الطبيعي التجريبي المحمود بلا شك، والذي حقق إنجازات وفوائد عظيمة للبشرية وغير مسبوقة، يجيرونها للترويج لأيدلوجياتهم، ويدعون في الوقت نفسه أنهم ضد الأيدولوجيات،

وهم أنصار العلموية (Scientism)، وإن أصبح هذا الاسم غير مرغوب حتى عندهم إنما لا مشاحة في الإصطلاح، والمقصودون هم من يرفعون شعار»أن لا حقيقة إلا ما تثبته العلوم التجريبية/ المادية».


بداية هذا الشعار المتطرف ليس شعار علماء العلم الطبيعي، الذين يعرفون حدود العلم الطبيعي مع الفلسفة والدين والفن والأدب والأخلاق، ويعرفون أن العلم الطبيعي لا يعمل في مجال المعنى والقيمة والخير والشر والجمال، وكبار مؤسسي العلم الطبيعي والمنهج التجريبي لا يقعون في هذا النوع من الخلط، إنما هو شعار تيار مغال يتستر بالإنجازات العظيمة التي حققها العلم الطبيعي ليروجوا لمعتقداتهم الأيدلوجية.

وقد ذكرت فيلسوفة العلوم سوزان هاك 6 علامات للعلموية منها: «البحث في العلم عن أسئلة خارج العلم، واستخدام كلمات «علم» و«علمي» و«عالم» وما إلى ذلك، بشكل شرفي كمصطلحات للمديح المعرفي، وإنكار أو الإساءة إلى شرعية أو قيمة المعارف الأخرى»، ومع أنه من الممكن أن ترى علماء كبارًا في تخصصاتهم، ولكن لياقاتهم الفلسفية ضعيفة، وهذا يحصل، ولكن من يقود العلموية اليوم هم أناس وصلوا لإنكار الفلسفه نهائيًا، وبعضهم مثل ستيفن هوكينج يقول: إن الفلسفه ماتت، ويقول لورنس كراوس: إن الفلسفة مجرد نفاية، ونرى أيضا سام هاريس، يؤلف الكُتب ويجادل بأن العلم يمكنه بمفرده تقديم إجابات للأسئلة الأخلاقية، وأن الفلسفة ليست ضرورية، وهم لا يعلمون أنهم حتى في دعاويهم هذه كانوا يمارسون الفلسفة، ولكن بشكل مشوه.

أيضا هناك نوع آخر من العلمويين، بل هم أكثر سوءًا وهم أصحاب الخطاب الشعبوي من بعض الشباب الذين لا يعرفون حتى العلم ومنهجه، فتجدهم مثلاً يخلطون بين فرضيات غيبية في العلم مثل الأكوان المتعددة ونظريات قوية مثل الانفجار العظيم و يظنونها سواء!

وعلى العموم نذكر بدايةً أن العلم الطبيعي يعتمد على افتراضات فلسفية (وهي غير مثبته علميًا) مثل الاعتقاد بأن الكون منظم وأن قوانينه سارية وقابلة للاكتشاف من خلال الملاحظة والتجريب، غير أنه لا يمكن إثبات هذه الافتراضات علميًا، لكنها ضرورية حتى يصبح البحث العلمي ممكنًا، وهذه من تهافتاتهم ولكن في هذا المقام الضيق لن نلفت النظر إلا لاثنتين من كبرى تهافتات العلموية، الأولى: في القاعدة والشعار الذي يرفعونه، ويدعون أنهم يمشون عليه والثانية: في الأرضية التي يقوم عليها العلم وكل معرفة، أما شعارهم القائل أن العلم التجريبي هو السبيل الوحيد لاكتساب المعرفة فسؤالنا لهم: هل هذه القاعدة مثبتة علميًا؟! أم أنها دعوى فلسفية ميتافيزيقية؟، وواضح أنها كذلك، ولا ينبغي أن تكون هذه القاعدة مثبتة علميًا حتى لو قال بهذا مكابر؛ لأن هذا يوقعهم في الدور وفسر الماء بعد الجهد بالماء، فمثلا لا يمكن أن تقول لأحد شككت في كلامه: ماهو دليلك على صدقك؟ فيقول: الدليل على صدقي هو أنني صادق!.

أما التهافت الآخر فهو أن العلم والاستدلال يقف في الأخير على المبادئ والمقدمات اليقينية (law of thought) وهي المبادئ التي يسلم بها العقل، لأنها واضحة بذاتها ولا تحتاج إلى برهان، وهذه المبادئ ليست مثبتة علميًا ولا ينبغي لها.. وعليه فإن الوجود أكبر من أن يُعرّف بأداة واحدة، كما قال ألبرت أينشتاين «العلم دون دين أعرج، والدين دون علم أعمى».

ولابد أن النتائج ستكون كارثية عندما يسود العلم بدون دين أو أخلاق وعقل، كالكارثة التي حصلت في الولايات المتحدة الأمريكية، عند تطبيق (علم) تحسين النسل في الولايات المتحدة الأمريكية عندما تم سن قانون للتعقيم القسري للفقراء وذوي الإعاقات الجسدية والعقلية، وتم قطع نسل عشرات الآلاف على الأقل من البشر، واستمر هذا القانون حتى سبعينيات القرن الماضي!

اما الآفة الآخرى فهي أنه كما أن مغالي العلموية يشوهون العلم بإخراجه من مجاله، كذلك ردة فعل مغالي الدين بأن يرفضوا العلم ظنًا منهم أنهم يحمون الدين! وهذا يذكرنا بما قاله الغزالي أيضا بعد أن بيّن الآفة الأولى، «الآفة الثانية: نشأت من صديق للإسلام جاهل ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب إليهم» وأضاف «ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات، ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية».

العالم العربي اليوم يحتاج أكثر ما يحتاج إلى الاهتمام بالجانب العلمي وتطوير المؤسسات العلمية، وتعزيز ثقافة العلم في العقل الجمعي كأداة لمعرفة وتطويع الطبيعة لخدمة الإنسان وليس كما يروج له العلمويون، إذ أنه ليس أداة لتحديد الخير والشر، كما أنه ليس بديلا للدين والفلسفة.