تشير إحصائيات أخيرة إلى حالة عزوف عن الزواج بدأ ينتشر بشكل غير مسبوق بين الجنسين، عزوف يتزامن -أيضا- مع ارتفاع معدلات الطلاق، ما ينذر بانعكاسات سلبية اجتماعية على المدى البعيد.

مبدئيًا رأيي هنا مبني على مشاهدات وملاحظات فقط، فلا غنى عن دراسات علمية وبحوث متخصصة، أعتقد أننا بأمس الحاجة إليها في هذا التوقيت.

النظرة المجتمعية لمنظومة الزواج، من أهم الأسباب التي ينبغي الالتفات إليها، وهي نظرة -للأسف- ما زالت تنتمي لزمن الطفرة، لم تستوعب بعد فعل الحداثة والتغيرات العميقة التي طالت كل ما يؤثر في الإنسان.


إذا تأملنا زمن الأسلاف سنرى الأدوار مرتبة وفق إمكانياتهم واحتياجاتهم بطريقة متكاملة تمامًا، كان الإنجاب وتربية الأطفال والأعمال المنزلية هي المهام الأساسية للمرأة، بل إن حياة المرأة بلا قيمة حقيقية إذا لم تمارس هذا الدور، وعلى أرض الواقع كانت الأسرة تجتهد عند تربية البنات على تهيئتهن لهذا الدور، من هنا كانت مؤسسة الزواج تمثل كل شيء للمرأة، هي كل الأحلام، وهي بداية الاعتراف بكيانها الاجتماعي، والمصدر الأساسي لكل الاستحقاقات القادمة في حياتها.

في المقابل كان الرجل مسؤولا بمفرده عن توفير المال والحياة الكريمة لأسرته، وبحكم هذا الدور فهو وحده الذي يواجه الجانب الصاخب المشحون من الحياة، في الشارع والسوق وأماكن العمل، ما طور قدرته على إدارة المعارك اليومية، ونمى مداركه الحياتية بمستويات قد لا تصل إليها المرأة.

من هذه الثنائية نشأت تقاليدنا وأمثلتنا الشعبية وكل شيء عرفناه عن منظومة الزواج والأسرة، كان امتلاك المال وحرية التنقل والعمل، أهم مقومات الرجل تمنحه الهيبة والسطوة والمكانة، أما المرأة فكان يكفي أن تكون ودودًا ولودًا متدينة مدبرة، لتحظى بأفضل ما يمكن من تقدير الزوج والمجتمع.

هذا طبعًا ليس كل شيء، فالماضي له سلبياته وتحدياته رغم أنه يبدو نموذجًا جميلا لشدة بساطته ووضوحه لنا من حيث نقف اليوم، فيخيل إلينا أننا لا نزال قادرين على العودة إليه بشكل أو بآخر، والحقيقة أن هذه الصورة القديمة تلاشت، ولم تعد موجودة على أرض الواقع، أعجبنا ذلك أو لم يعجبنا.

نعيش اليوم أوج زمن الحداثة والتحول العالمي إلى الرأسمالية، لقد تغيرت أولويات الناس وطباعهم واحتياجاتهم، ونحن طبعا لسنا استثناء من هذا العالم.

المرأة التي خرجت اليوم للعمل والحياة العامة، وأصبحت مكتسبة ومساهمة في نفقات الأسرة، لن تكون قادرة على لعب الأدوار التقليدية بالاحترافية التي كانت عليها أمها وجدتها، كما أن الرجل المعاصر الواقع تحت ضغوط ووجهات نظر مختلفة حيال المرأة والأسرة و المجتمع، ليس هو نفسه السيد المهاب الذي كان «عيبه الوحيد، جيبه».

باختصار.. أعتقد أن بداية العلاج تكمن في الوعي بأنه علينا تغيير قناعاتنا تجاه فكرة الزواج بناء على متغيرات العصر و طبيعته.

ولا شك أن تشكيل الوعي الاجتماعي يحتاج تظافر جهود الجهات المختصة والعقلاء والمؤثرين في المجتمع، كما نحتاج لعمل مؤسسي حقيقي، يعيد كتابة سيناريوهات قابلة للتطبيق في حياة الناس.

ماذا لو استبدلنا المهور المرتفعة وحفلات الزواج الباذخة، بمشاريع استثمارية أو أصول أو حسابات ادخار للأسرة الناشئة، أو لنقل في بداية حياة مريحة دون قروض؟ ألا ينعكس هذا على رفاهية الأسرة ومستقبلها وعلى مشاعر الزوجين تجاه بعضهما.

ماذا لو تفهم الزوج طبيعة عمل زوجته ونظر للعلاقة بوصفها تشاركية قائمة على التعاون، فساندها وتفهم ظروفها بل وشاركها أعمال المنزل، خاصة وأن التقنية اليوم أصبحت تقوم بمعظم العمل.

ماذا لو أعدنا النظر في مسألة التعارف بين الخاطبين دون ضغوط من الأسرة، لضمان قناعة الطرفين، وسد كل منافذ التراجع والتخلي المحتملة، والتي صرنا نراها تلوح بشكل مؤسف بعد مرور شهر أو أقل في غالبية الزواجات التقليدية.

تمسكنا بالشكل التقليدي للزواج رغم انتفاء ظروفه خلق حالة من عدم الثقة، فأصبح الجميع يخاف من الالتزام الحقيقي الطويل، ويبحث عن ظروف مؤقتة ومخففة من الارتباط، وهذا -بلا شك- سيحدث تخلخلا في البنية المجتمعية والاخلاقية، وهي أزمة لا نملك أمامها إلا سلاح الوعي ثم الوعي ثم الوعي.